مرايا الحنين المتجاورة
(أثر جلال الدين الرومي في الأدب الجبراني)
(إننا جميعا طيور مائية أيها الغلام , وإن البحر ليعلم لغتنا حق العلم )
جلال الدين الرومي
( تتبخر مياه البحر وتتصاعد ثم تجتمع وتصير غيمة وتسير فوق التلال والأودية حتي إذا ما لاقت نسيمات لطيفة تساقطت باكية نحو الحقول وأنضمت إلي الجداول ورجعت إلي البحر موطنها )
جبران خليل جبران
مقدمة
البحث عن الذات والحنين إلي المطلق هو ما يميز الصوفي الحق عن غيره إذ التصوف في جوهره ليس إلا سموا وتعاليا وتحررا من أدران المادة ,تجربة وسلوكا حياتيا و طريقا للروح ليتفوق الإنسان علي نفسه ويهتدي إلي الحق,هذه الرؤية للتصوف تكاد تكون مشتركة بين ثقافات وديانات عديدة وهي نظرة تربط التصوف بالممارسة والعمل , و تحمل فكرا وفلسفة وتطرح رؤية للوجود (الواحد) أو الوجود الغير منفصل عن الله الغير قائم إلا به,وإذا كانت الاتجاهات الصوفية تختلف باختلاف الثقافات والديانات فإنها تجمع علي مرتكزات أساسية هي وحدة الوجود وطلب التسامي والتوق إلي المطلق, وتتفرع عن هذه القضايا أفكارا وأبعادا أخري عديدة.
وانطلاقا من المشترك بين المتصوفة ومحاولة درس العلاقات الثقافية والدينية بين الحضارات التي تلعب الدور القوي في إنتاج خطاب جديد للتصوف يسعى إلي التجديد المستمر, من هذا المنحي سنحاول أن نقارن بين بعض النزعات الصوفية عند جلال الدين الرومي (1273 /1207)وهو شاعر مسلم فارسي وعالم وصوفي كبير وعند البعض وليا من أولياء الله, وبين شاعر وكاتب ورسام مغمور عربي مسيحي هو جبران خليل جبران 1931/1883))
وبداية ليست هذه المقارنة بحثا دينيا ولا مقارنة بين جلال الدين الرومي وجبران لأننا لا نسعى إلي ذالك وفي نظرنا أن المقارنة لا تصلح أصلا لأن كل إنسان كما نراه مختلفا عن الآخر ,و الأول مسلم والثاني مسيحي وبين الديانتين والثقافتين بون شاسع وان اشتركتا في بعض العلائق ,لا تخرج المقارنة عن بعض المشترك والمتشابه كما نفهمه بين الشخصيتين.
جلال الدين الرومي شاعر وعالم وفيلسوف وصوفي كبير أثر بقوة في الذين جاؤوا بعده من متصوفة المسلمين وغيرهم وقد ترك آثارا عديدة وذاع صيته في كل الدنيا ,فبهر الشرق والغرب وترجمت أعماله إلي عديد اللغات العالمية ودرست شخصيته وكتبه خصوصا كتابه الرائع الذي سماه البعض تعظيما(قرآن الفرس) (المثنوي)
وربما يعود السر في خلود أعمال الرومي الرائعة إلي انه لم يترك مبحثا من مباحث الوجود إلا وخاض فيه فتغلغل بذالك في أعماق النفس البشرية وجاء بالدرر, وصدق الجامي حينما قال (ماذا أقول في هذا الرجل ليس نبيا ولكن لديه كتاب), أي والله كتاب لا كالكتب تقرأه وتقرأه فتمتلأ من ألطافه وحكمه وجماله وتتعلق به كأنك تكتشف روحك وما كنت تبحث عنه وتود أن تجالس صاحبه لتسأله عن كتابه (أصول أًصول أصول الدين) كما قال مفتخرا وحق له لأنه قد وضع فيه كل عبقريته وطاقاته وسيبقي منبعا لا ينضب ومدارا لالتقاء أهل الفكر والشعر والفن والتصوف والحق, وإذا كان الرومي من عمالقة الأمة الإسلامية الذين أنجبتهم الحضارة العربية الإسلامية فإن جبران خليل جبران هو الآخر يعد قمة من قمم الشرق ,هذا الشاعر والفيلسوف الروحاني (الذي جاء إلي الوجود ليقول كلمته) جبران العبقري هو الآخر لديه كتاب بل كتب (النبي ,يسوع ابن الإنسان ) رسوما ته ,أشعاره, أمثاله .
جبران مثل الرومي يتوزع في الدنيا فتشعر بالوجود في كل ما يكتب , ,تارة ضاحكا وأخري باكيا ,صامتا ,صارخا,وبلغات عديدة يخاطبك ولكي تفهمه لابد أن تتعلم الفن الصعب ,أن تفتح كل نوافذ ك وعوالمك عليه وتصغي في صمت مطلق لروحه, ويوما بعد يوم تتعلم وتدرك الفن الصعب فن جبران ,يوما بعد يوم ستتكشف لك عظات لم يبح بها(النبي ) لأهل اورفليس.وكم كان عبقريا ومتصوفا متأثرا بالفلسفات الإشراقية و التصوف الإسلامي وهو ما نحسب معه أن جبران قرأ الرومي والعطار كما قرأ ابن سنا والغزالي
الصلات التي تربط جبران بالرومي عديدة متبعثرة هنا وهناك في كتاباته لذالك سنعمد علي تبيان ما نراه تأويلا غير بعيد في نقاط الالتقاء هذه وهي :
1\نوح الناي:
الناي هو آلة من آلات الطرب ينفخ فيها وهي فارسية الأصل (1) وكان الفرس يهتمون بالغناء و المغنين ويقدرونهم ولم يكن العرب يهتمون بالموسيقي والغناء إلا بعد أن استولوا علي الدنيا وملكوا فارس وغيرها وعاشوا ترف الحضارة وعايشوا الفرس والروم الذين جاؤوا بالعيدان والطنابير والمعازف والزمامير فصار العرب يستعذبون ذالك ويلحنون مثله (2) وإذا كان الناي فارسيا فمن الوارد أن يكون جبران أخذه عن متصوفة الفرس وليس من ابلايك(3) أو الإله بان (4) , واصل قصة الناي كما يري البعض ترجع إلي حكاية الملك ميداس وأمين سره الذي مرض ولم يستطيع أن يبوح لأحد بالسر الذي ائتمنه عليه الملك فأرسله الطبيب إلي بحيرة منعزلة وباح بالسر هناك وقد نبتت في المكان شجرة قطعت وصنع منها ناي باح بالسر للعالم (5)والمهم في الموضوع أن الرومي كما العطار والسنائي استخدم رمز الناي في علاقة الإنسان بأصله الإلهي ونوح الناي رمزا للشوق والتعلق بالأصل وطلبا للتحرر من قيود العالم المادي.
يبدأ المثنوي بالناي ويصف نغماته (بأنها حنين إلي منبته الذي قطع منه قبل أن تتناوله يد البشر وتصنع منه الآلة الموسيقية وما الناي هنا إلا رمزا للنفس البشرية,وما منبت الغاب إلا رمزا لأصل تلك النفس وعالمها الأول وما حنين الناي إلا رمزا لحنين النفس البشرية إلي أصلها) (6)
يقول جلال الدين الرومي ( استمع للناي كيف يقص حكايته ,فهو يشكو آلام الفراق قائلا إنني منذ قطعت من منبت الغاب والناس جميعا يبكون لبكائي ,إنني انشد صدرا مزقه الفراق حتى اشرح له ألم الاشتياق ,فكل إنسان أقام بعيدا عن أصله ,يظل يبحث عن زمان وصله ,لقد أصبحت أنوح في كل مجتمع وناد,وصرت قريبا للبائسين
والسعداء, وقد ظن كل إنسان انه قد أصبح لي رفيقا , ولكن أحدا لم ينقب عما كمن في باطني من الأسرار!
وليس سري ببعيد عن نواحي , ولكن أني لعين ذالك النور أو لأذن ذالك السمع الذي به تدرك الأسرار) (7)
يبدو أن الرومي فكر طويلا في العلاقة التي تربط الكائن بالله سبحانه وتعالي فطرح فكرة الناي مفسرا بذالك أمورا عديدة, منها أن( كل ما في العالم مظهر لتجلي الحق سبحانه وتعالي) ((8 وعلاقة الصوفي و الإنسان بالله علاقة قوية ,تتجلي في كل مظاهر الوجود ,ويصعب التعبير عنها بالكلمات ,لان الله كان قبل كل الكائنات وسيبقي جل جلاله بعد فناء الخليقة , والصوفي المغمور بهذا الشعور القوي ,يقع في حيرة عميقة حينما تسيطر عليه المواجيد والأحوال فيغيب عن ذاته , ولا يعد يري أو يسمع إلا الله سبحانه وتعالي , وابلغ تشبيه للعلاقة بين الله والإنسان هي نوح الناي , الذي لا يسمع إلا بفاعلية النفخ الذي هو حياته تماما مثل الإنسان وهو هنا يذكر بالآية الكريمة (ونفخت فيه من روحي)
والناي والإنسان متماثلين ويقوم التشابه بينهما (علي مركزية العلة الموجبة لكل منهما وعن هذا المركز تتفرع العلاقات الاخري في كلا الجانبين وكأنها تجعل كل واحد منهما مرآة للآخر يري نفسه فيها ,علي قاعدة الاشتراك والتماثل المفضية إلي مستوي من التطابق ,يغدو معه كل طرف هو عين الآخر من حيث هو غيره ,فالنفخ في الناي يحكي نفخ الروح وعنه يلزم الظهور والتعين وانكشاف الجمال ومن الجلي أن الاشتراك بين طرفي التناظر يقوم علي المستويين الوجودي والمعرفي إذ بالنفخ يكون القيام الوجودي الذي يجعل من الإنسان والناي مجلي للخالق وبه يكون كل منهما ترجمانا لأسرار المعرفة ,,, ويظهر النفخ الإنساني في الناي فعلا محاكيا للنفخ الإلهي ,انه إنتاج آخر لفعل الخلق يصير به المخلوق خالقا وكأنه يعيد تحيين الفعل التأسيسي ويقيم من خلاله في الطور المقدس عبر إنتاجه له من جديد ) (9)
من ناحية أخري الناي (مرتبط بقصب السكر,كلاهما مملوء بحلاوة الحبيب ويرقص آملا الظفر بشفة المعشوق,لذالك فكل إنسان مفتون بشكوى الناي الذي يحكي قصة الحب الأزلي ,يقول الرومي:
نح في العدم أيها الناي وابعث مائة ليلي ومجنون ومائتي وامق وعذراء ) (10) ,هذا النوح يحمل صورا عديدة فهو نار وليس هواءا ينفخه العازف لأن الصوت ملتاع , وهو أيضا سم وترياق لأنه يثير الأحزان بأنغامه وفي ذات الوقت يشفيها (11) وليس كل مستمع يتأثر به وإنما علي المرإ أن يكون ذا نفس شاعرة تفقه الأنغام والإنسان الذي يعاني ويقاسى هو الذي يدرك الأمور,لذالك جعل الرومي الناي قرين البائسين والسعداء لأن كل واحد يسمعه بحسب الحالة التي يعيشها.وهنا يحق للمرإ أن يسال عن ما لذي دفع الرومي أن يعبر عن أفكاره باللجوء إلي الموسيقي , لقد إطلع الرومي علي الموسيقي وأهمية استخدامها في العلاج النفسي لتأثيرها القوي في النفس البشرية ,لذالك عظمها واتخذها وسيلة قوية للتعبير عن أفكاره وفلسفته الصوفية, وقد انتقد علي ذالك وعيب عليه الاهتمام بالموسيقي عندما قال صوت الرباب هو صرير باب الجنة الذي نسمعه فقال له المعيب نحن أيضا نسمعه ولكنا لا ننفعل كما تنفعل فقال ما نسمعه نحن هو صوت فتح باب الجنة وما تسمعه أنت هو صوت الإغلاق (12)
وشعر الرومي مليء بالرموز التي تعود إلي الموسيقي والرقص الصوفي إذ أن الرقص الصوفي بالنسبة له حركة تهب الحياة (13) وهو ترياق لكل الأسقام :
الأرواح السجينة في الماء والطين عندما تتحرر من
الماء والطين تغدو مسرورة القلوب
وتغدو راقصة في هواء عشق الحق وتصبح
كوامل مثل قرص البدر
بل إن أجسامها لتغدو راقصة فلا تسل عن الأرواح
وأما مصدر بهجة الروح فلا تسل عنه.(14)
الحياة عند الرومي رقص صوفي( والرقص رمز للتوتر الفاصل بين الفراق والوصال,التجاذب والتنافر الذي من دونه لا تكون حركة ولا صوت والطبيعة كلها تشترك في هذا الرقص) ((15
وهو( ينظر إلي الخلق علي انه رقص كوني سمعت فيه الطبيعة وهي غارقة في العدم النداء الإلهي فاندفعت إلي الوجود في رقص وجدي )(16)
وإذا كان الرومي قد بدأ المثنوي بأغنية الناي فان جبران هو الآخر بدأ كتاباته بمقال مطول عن الموسيقي عظم فيه أهلها ورآها تستحق كل الاهتمام فهل هذه البداية المتوافقة مع مقدمة المثنوي مجرد مصادفة وتوافق للخواطر أم نتيجة تأثر واعي عميق ؟!
يفتتح جبران مقاله معظما الموسيقي قائلا:
يا ابنة النفس والمحبة, يا إناء مرارة الغرام وحلاوته, يا أخيلة القلب البشري ,يا ثمرة الحزن وزهرة الفرح , يا رائحة متصاعدة من طاقة زهور المشاعر المضمومة, يا لسان المحبين ومذيعة أسرار العاشقين,يا صائغة الدموع من العواطف المكنونة , يا موحية الشعر ومنظمة عقود الأوزان , يا موحدة الأفكار مع نتف الكلام ومؤلفة المشاعر من مؤثرات الجمال, يا خمرة القلوب الرافعة شاربها إلي أعالي عالم الأخيلة ,,,,,,,,, يا بحر الرقة واللطف إلي أمواجك نسلم أنفسنا وفي أعماقك نستودع قلوبنا فاحمليها إلي ما وراء المادة وأرينا ما تكنه عوالم الغيب)(17)
جبران في الموسيقي يتحدث بتأمل عن التأثير الموسيقي, و عن لغة الحب المنطوقة والغير منطوقة وتاريخ الموسيقي ومنزلتها عند الشعوب ويذكر عظماءها كأورفيوس وداود والموصلي.
والمهم في هذه المقالة المطولة أن جبران يقترب كثيرا من الرومي في تعظيمه للموسيقي بل ورؤيته لها في كل مناحي الحياة وما دعوته لتمجيدها إلا نوع من التمثل الواعي للأصوات التي تهب الحياة ,وقد عبر بصيغ عديدة عن الرقص الصوفي الذي يعني عند جلال الدين الرومي حركة الوجود في كتابه النبي وفي المواكب التي (ترمز للجموع البشرية السائرة نحو اللانهاية ) (18)
في المواكب وهي قصيدة فلسفية طويلة في مائتين وثلاثة أبيات مقسمة إلي ادوار مثل الموشحات وفيها صوتان صوت شيخ وصوت فتي يتحاوران في الحب والموت والخير والشر والعدالة والحرية ,,,,ومواضيع عديدة والحوار قد يكون (تعبيرا عن صراع داخلي بين جبران الذي مل عالم المتناقضات وما نجم عنها من فساد وجبران الذي تاق إلي الكما ل الذي يمثله عالم الصوفي الذي تذوب فيه الفوارق في وحدة تامة رمز إليها بالغاب وصوت الناي الذي يتبع الصوت الثاني في الحوار وقد وجد في هذه الوحدة خلاص الإنسان الوحيد فالفساد والشر في المجتمع لا يزولان إلا بزوال المتناقصات ) (19) يقول جبران في المواكب :
الخير في الناس مصنوع إذا جبروا
والشر في الناس لا يفني وان قبروا
وأكثر الناس آلات تحركها
أصابع الدهر يوما ثم تنكسر
.............
ليس في الغابات راع
لا ولا فيها القطيع
......................
اعطني الناي وغن
فالغنا يرعى العقول
وانين الناي ابقي
من مجيد وذليل
.........
ليس في الغابات حزن
لا ولا فيها الهموم
....................
اعطني الناي وغن
فالغنا يمحو المحن
وانين الناي يبقي
بعد أن يفني الزمن
...................
ليس في الغابات سكر
من مدام أو خيال
فالسواقي ليس فيها
غير إكسير الغمام
..................
اعطني وغن
فالغنا خير الشراب
وانين يبقي بعد أن تفني الهضاب
......................
ليس في الغابات عدل
لا ولا فيها العقاب
...................
اعطني الناي وغن
فالغنا عدل القلوب
وانين الناي يبقي
بعد أن تفني الذنوب
اللافت للاهتمام أن جبران ظل يكرر في كل القصيدة لازمة اعطني الناي و غن بعد كل حوار في إشارة واضحة إلي أن صوت الناي ,هو نداء الكينونة هو الوجود هو الحقيقة الكاملة معطيا نفس المعني عند الرومي ,إن كل المتناقضات والفوارق تنتظم في وحدة كاملة بمعني وحدة الوجود ,ونوح الناي هو الذي تنهض عليه القصيدة وهو أساسها , ثمة محورية مهمة في القصيدة وهي ثنائية الروح والجسد والصراع العنيف بينهما وانتصار الشاعر للروح بالدعوة إلي الغاب الذي هو الأصل الذي قطع منه الناي ,وثنائة الروح والجسد في مستوي معين تعكس طهارة الروح وسموها نحو أصلها بغية التحرر من أدران المادة أو السجن( الجسد) وهذا الموضوع معروف في الأدبيات الصوفية, وجبران في لازمته يطرح أربعة قضايا مترابطة هي :
1 – اعطني الناي
2 –وغني
3—فالغنا (دعوة للغنا)
4—أنين الناي (نوح الناي) ,وهي قضايا مترابطة ترابطا قويا ,وما هذا الترابط إلا انعكاسا للتجربة الصوفية الجبرانية التي تجعل من نوح الناي (سر الوجود) ,المعني الحقيقي للوجود الملتحم مع المطلق ,وجبران يستبدل فاعلية النفخ بالغناء ,ومع ذالك يشير لفعل الوجود والخلق بانين الناي ,المتصاعد في كل مظهر والمتجلي بحرارة في عالم الغاب ,عالم الطهر والنقاء والسكينة ,عالم التحرر من المنازع والقيود الأرضية التي تأسر بني البشر,وبذالك يتسامى جبران ويظل في توق ابدي للمحبوب المترائي له في نوح الناي الذي يطرح في مستوي أخر معاناة الكائن وألمه في بحثه عن الحقيقة ,وهو ما سيتجلي بصورة واضحة في تمجيده الألم واعتباره طاقة خلاقة للإبداع والمعرفة كما نجد عند المتصوفة الكبار أمثال الرومي وفريد الدين العطار النيسابوري ومحي الدين بن عربي.
/2 الألم مخزن للطاقة الخلاقة
الألم عند المتصوفة هو الطريق إلي الحق والمطهر من كل الشرور ولولاه لما كانت الحياة لها معني ,الألم هو الفاصلة الحاسمة والمحطة الكبرى التي يعبر منها المرأ إلي لباب الحقائق,وما معاناة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا برهانا ساطعا علي أن الألم طريق الخير والحب والمعرفة ,وكتب الصوفية في معظمها تمجد الألم وتنظر إليه نظرة قدسية تجعل الإنسان يعبره غير مبال لتحقيق كماله يقول جلال الدين الرومي ( والذي يكون بدون ألم قاطع طريق ,ذالك لأن الخلو من الألم يجعل المرأ يقول أنا الله (20) ويذهب إلي انه للوصول إلي الكمال (لابد أن يفيض قلبك وعيناك بدم كثير حتى يخرج منك العجب ) (21) , ويقول العطار(إن لم تكن رجل آلام فلن تكون رجلا في مصاف الرجال, وكل من تسيطر عليه آلام العشق وحرقته كيف يجد الراحة والسكينة في ليله ونهاره) (22) ويقول (كل من عجن بآلام القلب ,فقد انمحت النار بالنسبة له وكذالك الجنة) (23) ويقول ابن عربي (إن الحزن إذا فقد من القلب خرب) (24) وجبران كما الرومي يمجد الألم بل يراه هو السر الذي تتفتق فيه النفس, وتدرك ما لا يمكن أن يدرك بواسطته, ويربط في (النبي ) بين الحزن والفرح فيراهما واحدا وان تعددت الصور وفي إشارة ذكية يذكر أن الناي الذي يطربنا مقطوع بسكين من خشبة مما يعني أن في باطن الفرح يقيم الألم وجبران في معظم ما كتبه يري في الألم مطهرا ومحررا وطاقة خلاقة ومعاناة في سبيل السمو والتعالي وفي رسومه يبدو الألم والحزن في كل الوجوه التي رسمها وكأنه رسول الألم ولا غرابة لأن الرجل عاش حياة عاصفة وذاق مرارة الفقر المدقع وفجيعة الموت والتشرد مما انعكس عليه بشكل جلي يقول عن الألم (إنما الألم انشقاق القشرة التي تغلف إدراككم ,وكما يتحتم علي النواة أن تنفلق كيما يبدو قلبها للشمس ,كذالك يتحتم عليكم أن تعرفوا الألم ) (25) ( قالت محارة لمحارة تجاورها إن بي ألما جد عظيم في داخلي انه ثقيل ومستدير, وأنا معه في بلاء وعناء , وردت المحارة الاخري بانشراح فيه استعلاء الحمد للسماوات والبحار, لا اشعر في سري بأي الم أنا بخير وعافيه داخلا وخارجا,ومر في تلك اللحظة سرطان مائي وسمع المحارتين وهما تتساقطان الحديث فقال للتي هي بخير وعافيه داخلا وخارجا , نعم أنت بخير وعافيه ولكن الألم الذي تحمله جارتك في داخلها إنما هو لؤلؤة ذات جمال لا حد له )(26)
لقد رأي فيه الوسيلة المثلي لإيقاظ الجوهر الإنساني الخفي وبلوغ قدسية الحياة والمخزن الحقيقي لبلوغ الإبداع
لأنه (يفجر الإدراك فيقود الإنسان إلي الفهم, والفهم يولد مخاض التحرك نحو التجدد والإبداع , والإبداع يؤدي إلي زوال الوعي الناقص وظهور الحياة المثالية , والحياة المثالية لا تتحقق إلا إذا تحولت إلي هاجس يهز النفس في كل حين ,هاجس التساؤل عن الحياة ) (27)
وإذا كان الألم طاقة إبداعية ضرورية لإيقاظ الجوهر الإنساني ,فان المحبة هي رسالة الوجود , والأساس الذي قام عليه العالم وجبران يتفق مع الرومي والمتصوفة الذين يرون أن العالم أساسه المحبة مستشهدين بالحديث الشهير ( كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرفت إليهم فعرفوني ) (28),
العشق الصوفي هو العتبة الأهم في الطريق إلي الله ويصعب التعبير عنه بالألفاظ والكلمات, لان العاشق الصوفي في غمرة عشقه لا يري إلا الله,وفي هذا الوصول أو الفناء المطلق في الله يدرك ما لا يدركه الناس العاديين , والعشق الصوفي عند جلال الدين الرومي هو المقام الاسمي الذي لا يدركه إلا الصفوة ,والرومي في كل ما كتب عاشق ولهان وقد شكا من عجز اللغة عن أن تفي بهذا العشق العظيم (29) وجبران يتفق كثيرا مع الرومي في سمو المحبة وقدسيتها وأنها الملة الجامعة للخليقة .لذالك تغدو تجربة العشق هي تفجير لطاقات الإنسان وتوحدا قويا مع الله.
3| المحبة رسالة الوجود
في التاريخ الصوفي لا يوجد صوفي إلا وقد اكتوي بنار الوجد والهيام والغرام والتعلق والفناء في الله سبحانه وتعالي , والعشق في التجربة الصوفية هو المدار والملة الجامعة للإنسان وقد يتخطى مفهوم الأديان للعلاقة بين الفرد والخالق سبحانه وتعالي ليصير دينا في حد ذاته يقول الرومي ( إن ملة العشق قد انفصلت عن كافة الأديان فمذهب العشاق وملتهم هو الله ) (30)
والرومي يراه تجربة مقدسة لابد منها ( أشعل في روحك نارا من العشق ,ثم احرق بها كل فكرة وعبارة) (31) (أيها العاشق لا تكن اقل من فراشة ومتي تفادت فراشة النار) (32) ويعني هذا العشق التخلي عن الذات والاتحاد مع الوجود الحي أي الله سبحانه وتعالي وهو بذالك يعظم القلب ويراه طريقا حرا وموصلا إلي بر الأمان داعيا إلي السمو عن أدران الجسد (إن القلب يقودك إلي جادة أهل القلوب, وأما الجسم فيقودك إلي سجن الماء والطين ,فاجعل غذاء قلبك من اتصالك بأهل القلوب واذهب وانشد الإقبال ) (33)
والرومي بهذا التصور يتفق مع المتصوفة أمثال ابن عربي والعطار الذي يقول (أمعن النظر في القلب, ولكي تري وجهه أمعن النظر إلي القلب ) (34) وقد عظم العطار العشق وجعله اسمي من الدين في حكاية الشيخ صنعان وعقده الزنار وتخليه عن الإسلام نتيجة عشقه لفتاة مسيحية اشترطت عليه أن يترك دينه ليتزوجها ففعل فتركه تلامذته وتضرعوا إلي الله أن يهديه فعاد إلي الإسلام وتبعته المسيحية وأسلمت ثم ماتت, والقصة معروفة وقد بين فيها العطار دور المحبة المقدسة فكما اعتنق صنعان المسيحية حبا بالفتاة تركت هي كذالك دينها بحبه (35),وفي الأدبيات الصوفية يتصف العشق بكل إجلال وتقدير لأنه المقام الاسمي كما نجد في قصة الوردة والبلبل الذي ساق عذره للهدهد في رحلة البحث عن السميرغ بأنه لا يستطيع الذهاب لأنه مغرم بالوردة ,وقد جعله العطار الواد الثاني من الأودية السبعة التي عبرتها الطيور إلي السميرغ ملكها بحثا عن الحق , وجعله فوق العقل والتصور
يقول في وصف وادي العشق (وبعد ذالك يتضح وادي العشق , ومن يصل هناك يغرق في الحرقة ,,,,,, العاشق من لا يفكر لحظة في العاقبة ,إنما يكون غارقا في النار,,,, وكل من يتطهر يطرح المادة جانبا ,العشق نار هناك أما العقل فدخان , فما أن يقبل العشق حتى يفر العقل مسرعا ) (36)
عند جبران وان لم يكن متصوفا بالمفهوم الذي نجده عند الرومي والعطار إلا انه يلتقي معهما في سمو المحبة وليس ذالك غريبا فهو كما يقول مدين بكل كيانه إلي المراة , أمه كاملة رحمة ,وصديقته هاسكل ,الأمر الذي ربما يكون السر في تقديسه للمراة,التي أوحت له بعظمة الحب فرآه في كل الدنيا وانه الناموس الذي يسير الحياة ,وقد يكون تعظيم المحبة عنده انعكاسا للتأثير المسيحي أو الرومانسي,ومع ذالك يبدو التأثير الصوفي واضحا في ومض التسامي وتقديس الحب بل وفي بعض الأحيان جعله سرا من الأسرار لا يتكشف إلا للقليلين من البشر ,الحب الجبراني حب صوفي متعالي عن أدران المادة لا يخلو منه شيء في الدنيا وهو طاقة روحانية يصعب التعبير عنها تماما مثل المواجيد الصوفية يقول جبران عن نبيه بأن (الكثير مما كان يجيش في قلبه بقي متلحفا بالصمت , لأنه لم يكن في طاقته أن ينطق بسره الأعظم والأعمق ) (37)
(إذا الحب أومأ إليكم فاتبعوه حتى وان كانت مسالكه وعرة وكثيرة المزالق , وإذا الحب لفكم بجناحيه فاطمإنوا إليه حتى وان جرحتكم النصال المخبوءة تحت قدميه ...... ومثلما يكون الحب لكم تاجا , يكون لكم صليبا ,,,,,,, والحب يجمعكم إليه كما يجمع الحاصد السنابل ثم يدوسكم ليعريكم , ثم يغربلكم لينقيكم من أحساككم ثم يطحنكم طحنا , ثم يعجنكم عجنا ومن بعدها يتعهد كم بناره المقدسة كيما يجعل منكم خبزا مقدسا ,,,,,,,, الحب لا يعطي إلا نفسه ولا يأخذ إلا من نفسه ,,,, وحسب الحب انه حب ,,,, بيد أنكم إذا أحببتم وكان لابد لكم من رغبات فلتكن هذه رغباتكم
أن تذوبوا في الحب فتصبحوا كالجدول الجاري الذي ينشد الليل أناشيده, وان تعرفوا ألم العطف المتناهي , وأن تفهموا الحب فهما يجرحكم في الصميم , فتدمي جراحكم عن رضي منكم وعن سرور , وأن تستيقظوا عند الفجر بقلوب مجنحة , شاكرين الله علي نهار جديد من الحب ) (38) , وإذا كان الرومي وجبران يتفقان في تعظيم المحبة فإنهما يلتقيان في أن طريق المعرفة القلب وليس العقل
4| القلب طريق المعرفة
يقول فوفونارك(إن أعظم الخواطر هي التي تنبلج من القلب) ,المتصوفة عموما يرون أن القلب والمعرفة الحدسية اقوي من العقل لانه عاجز وقاصر عن إدراك حقيقة الوجود يقول الرومي :
( إن البحث العقلي ولو كان درا ومرجانا يختلف عن البحث الروحي, فالبحث الروحي له مقام آخر وخمر الروح لها قوام آخر.
فاعلم أن بحث العقل والحس متصل بالأثر أو السبب وأما بحث الروح فمتصل بالعجب أو بأعجب العجب........ ذالك لأن المبصر الذي بزغ أمامه نور الله ليس بحاجة إلي دليل كالعصا) (39) (ولتمارس الحمية من الأفكار,والامتناع عنها ,إن الفكر هو الأسد وحمار الوحش ,والقلوب هي الآجام ) (40) ويشبه الرومي الفكر بتشبيه عميق بأنه غابة فيها مئات الذئاب تجري للامساك بحمل واحد وهو أمر بائس وغير لائق بمن هو ثمل بالواحد الذي حباه الفكر(41) وهو ما ذهب إليه العطار من قبل( بأن القلب فارس مملكة الإنسان (42) وان كل ما يبحث عنه الإنسان في لهفة وحيرة هو بداخله (إن كل ما تقوله وتعرفه نابع منك ,فلتعرف نفسك فقط ) (43)
وجبران يري أن المعرفة الحدسية اقوي من العقل ويؤمن بها يقول ( كل من يقيد سلوكه وتصرفه بقيود الفلسفة والتقليد إنما يحبس طائر نفسه الغر يد في قفص من حديد, لان أنشودة الحرية لا يمكن أن تخرج من بين العوارض والقضبان ) (44)
وقد رأي المعرفة الحدسية القلبية الوسيلة الحقيقية لإدراك الحقائق في (ارم ذات العماد ) حيث يقول ما مؤداه( انه يمكننا التثبت من حقائق الوجود ,التي نعرفها اليوم بالخيال والحدس, عن طريق الاستقراء العلمي ,لكن استناد الاستقراء هذا إلي الحواس وظواهر الأشياء يولد الشك بالحقيقة فيبطل اليقين وهو ما يستدعي الاحتفاظ بطريقة الحدس والتخيل ضمانا لبلوغ الحقيقة وتجاوبا مع طبيعة التركيب البشري ,وتكلم عن الاستكشاف الباطن في (القشور واللباب) وفي (ارم ذات العماد) حيث يقول علي لسان آمنة إن الإنعكاف علي ذاتنا الباطنية واستكشافها يؤدي إلي معرفة أسرار الوجود وإدراك جوهر الحياة لأن كل ما في الوجود هو انعكاس لباطن الإنسان) (45)
وإذا كان جبران يتفق مع الرومي علي سمو المعرفة القلبية فانه كذالك يتفق معه في عديد الرموز التي تعود إلي فكرة وحدة الوجود والفناء في الله, والتي تشكل اللب في الفكر الصوفي ,ويرمز إلي هذه الفكرة برموز وإشارات عديدة أنقاها وأعمقها هو البحر
5 | الفناء في البحر
يشكل البحر ميدانا خصبا لكل اللغات ولكل من ينشد العظمة والتفكير و يطلب الوحدة ,البحر عالم شاسع وفي عبابه ولجته يتوزع الفكر وتغرق الروح ,يقف أمامه الشاعر مذهولا بعظمة الوجود ,والفيلسوف والعاشق باحثين عن الأسرار ,أما الصوفي المسكون بعظمة الخالق فيتوحد معه في حالة مطلقة من التماهي لانه يعكس عظمة الألوهية ,وارتباط الذات الصغرى بالذات الكبرى ,القطرة بالبحر , البحر يعني كل شيء ,الحياة في كل فصولها ,وآلامها وأحزانها واستحالة فهمها بالعقل ,لذالك سيبقي البحر يدعونا إليه لأنه السر الأكبر الذي منه الحياة وفيه الفناء,خلقنا من الماء والحياة كلها في أصلها ماء ,فلا غرابة إذا في التعلق بالبحر وطلبه والموت فيه .
يرمز البحر عند المتصوفة للذات الكبرى الله سبحانه وتعالي يقول جلال الدين الرومي طارحا نفس الفكرة التي عرضها فريد الدين العطار في رائعته منطق الطير
(إننا جميعا طيور مائية أيها الغلام , وإن البحر ليعلم لغتنا حق العلم ,,البحر مثل سليمان ونحن كالطير وفي سليمان سيكون مسيرنا حتى الأبد ) (46) ويري أن سليمان ملك الأرض والذي تطلبه الطيور جميعا (البشر) ماثل أمام الجميع لكن الغيرة ساحرة تحجب البصر(47) ,البحر وسليمان عليه السلام في منطق الطير والمثنوي يرمزان للذات الإلهية والطيور ترمز للبشر, وفي منطق الطير(القصة الرمزية الأكثر دقة وروعة لإتصال الأرواح الفردية بالذات الإلهية ) (48) إشارة بليغة بأن حياة الطيور كلها مرتبطة بالماء ومنه خرجت وستظل تبحث عنه ,ويعني ذالك قلق الإنسان وسفره الروحي المستمر بحثا عن الحقيقة عن الخالق سبحانه وتعالي,ونوع من التماهي المطلق مع الله
.
إن صورة القطرة والبحر المترابطتين في الفكر الصوفي والتي( تجعل القطرة تعود إلي أصلها لتتحد بمصدرها مرة أخري وتتواري في اللج هي صورة معروفة عند المتصوفة الذين يقولون بوحدة الوجود ) (49)
هذه الصورة صورة القطرة التي تفني نفسها في البحر نراها عند جبران يقول ( وأنت أيها البحر الشاسع ,( أيتها الأم الهاجعة ) فيك وحدك السلام والحرية للجدول وللنهر,سيدور هذا الجدول دورة بعد سيهمس بعد همسة في هذه الغاب , ومن بعدها سآتيك قطرة لاتحد إلي محيط لا يحد ) (50)
البحر عند جبران (هو اللانهاية ,الذات الكبرى ,الله ,يقول : وصل الجدول إلي البحر وأتيح (للأم العظيمة) أن تضم ابنها إلي صدرها مرة ثانية) (51)
وكثيرا ما يعبر عن العودة إلي البحر وهي عودة الكائن إلي أصله كما هي عند المتصوفة (تتبخر مياه البحر وتتصاعد ثم تجتمع وتصير غيمة وتسير فوق التلال والأودية حتى إذا ما لاقت نسيمات لطيفة تساقطت باكية نحو الحقول وانضمت إلي الجداول ورجعت إلي البحر موطنها) (52)
هذه إذا هي المرتكزات الكبرى التي رأيناها تبين تأثر جبران بالرومي ,ينضاف إليها بعض الأقوال المتشابهة والمتطابقة والرموز والإيحاءات الكثيرة في رسمه , وقد عرضنا عن الرسم لأنه ليس مجالنا,بالنسبة للأقوال يمكن أن ندرجها فيما يعرف بالتداخل أو التعالق النصي الذي هو(تعالق (الدخول في علاقة ) نصوص مع نص حدث بكيفيات مختلفة ) (53) وهذا التداخل قد يبدو نوعا من التطابق التام مثل قول الرومي (.... هل يريد احد جذوة مني كي يشعل القمامة بناري ) وقول جبران (نفسي مثقلة بأثمارها فهل من جائع يجني ويشبع ) وقد يكون تحويلا للنص transformation الذي يعني عند جيرارجنت (العملية التي تنتج عنها ظاهرة التعلق النصي . hypertextualite ,سواء في مستواه البسيط أو المعقد وهو (كل علاقة جامعة لنص ب (نص لاحق hypertext) بنص سابق أ (hypotexte ) ,بحيث إن النص ب لا يتحدث عن النص أ , أي انه ينتج عنه بواسطة التحويل دون أن يذكره أو يصرح به ) (54) , وقد عرضنا لبعض النماذج التي كما نري تبين هذا التداخل والتحويل وهي
6| التداخل النصي
يقول الرومي : ( فيا من كنت تحرق الروح من اجل الجسد ,انك أحرقت الروح وبها أضأت الجسد , أما أنا فقد احترقت بالعشق فهل يريد احد جذوة مني كي يشعل القمامة بناري ) (55)
يقول جبران :
(نفسي مثقلة بأثمارها فهل من جائع يجني ويشبع ) (56)
يقول الرومي:
(يولد الآدمي مرة واحدة وقد ولدت مرات عديدة ) (57)
يقول جبران (لا يغربن عن بالكم أني سأعود إليكم ,,,,,,هنيهة بعد لمحة استراحة علي الريح وتلدني امرأة أخري ) (58)
يقول الرومي :
(اللفظ هو الوكر الذي يستريح فيه الطائر(المعني) ) (59)
يقول جبران :
(..... لأن الفكر أشبه ما يكون بطائر في الفضاء ,فإذا سجنتموه في قفص من الكلام بقي في مستطاعه أن يبسط جناحيه ولكنه يتعذر عليه أن يطير) (60)
يقول الرومي:
(لابد من مهلة كي يصير الدم حليبا صافيا ) (61)
يقول جبران :
(ليس من يكتب بالحبر كمن يكتب بدم القلب ) (62)
يقول الرومي (سكرت الخمرة بنا ولم نسكر نحن بالخمرة ) (63)
يقول جبران (.....وإنما فخري وثوابي لفي إنني كلما دنوت من الينبوع لأطفيء عطشي وجدت مياهه عطشي , فتشربني إذ أنا اشربها ) (64)
يقول الرومي (الصمت هو المحيط الذي يستمد منه الجدول الكلام ) (65) , يقول جبران
( وابتلع الصمت الذي هو مد بحر الليل جميع التلال ) (66)
هذه أمثلة بسيطة لنقاط التلاقي بين جلال الدين الرومي وجبران وليست هي كل ما يجمع بينهما فهناك إشارات كثيرة متشابهة مبثوثة في المثنوي وكتابات جبران ,وبالإضافة إلي اتفاقهما فيما سبق ,فإنهما يتفقان في السعي إلي الكمال الشخصي بتجاوز الواقع ويدعوان لمثالية الإنسان وتعاليه , وجلال الدين الرومي في المثنوي يعتمد كثيرا علي معجم الحياة اليومية ويأتي علي ذكر كل أمور الحياة وجبران في نبيه عرض لكل ما يهم الخليقة من (شؤون الفسحة مابين الحياة والموت )كما يقول, وكلاهما اتخذ الأسلوب القصصي سبيلا للتعبير عن فلسفته ,ورأي في الطبيعة قدسية سامية ودعا الإنسان للتعلم منها يقول الرومي بعد أن أعطي لكل ما في الطبيعة وظيفة (من الورد السوري انظر القيام ,ومن البنفسج الركوع ,وقد دخل ورق العنب في السجود فجدد الصلاة ) (67)
(لأني أنام في ظل نخلته صرت احلي من الرطب ,آه نعم ) (68)
(أنت يا من بسبب ألمك الممض ونداءاتك يا رب !
بكت السماء الليل كله !
أنا والفلك كنا نبكي البارحة
لنا مذهب واحد
ماذا ينبت من بكاء السماء ؟
الورد والبنفسج المنظم
وماذا ينبت من بكاء العشاق ؟
مئات الألطاف في ذالك المعشوق السكري الشفاه ) (69)
(أين دموع الربيع الحانية ,لكي تملأ
حواشي الأشواك بالورود ؟
التي تنبعث فيها الحياة بعبير نفس الربيع ) (70)
وجبران في نبيه يري أن العطاء الحقيقي هو ما تجود به الطبيعة ويدعو للتعلم منها (وثمة الذين يعطون غير متألمين ,وغير آبهين بما يسببه العطاء من جذل ,وغير شاعرين أن العطاء فضيلة .
أولئك يعطون كما تعطي الريحانة في الوادي عطرها للنسيم ) (71)
(قد فاحت روائح النرجس والزنبق وعانقت عطر الياسمين والبيلسان ثم تمازجت بأنفاس الأرز الطيبة وسرت مع تموجات النسيم فوق الطلول فملأت النفس انعطافا ومنحتها حنينا إلي الطيران ) (72)
(هلمي يا محبو بتي ...... سيري معي لنتتبع آثار أقدام الربيع في الحقل البعيد .... استيقظت الكروم وتعانقت قضبانها كمعاشر العشاق . تعالي لنشرب بقايا دموع المطر من كؤوس النرجس ونملا نفسينا بأغاني العصافير المسرورة .... لنجلس بقرب تلك الصخرة حيث يختبأ البنفسج ونتبادل قبلات المحبة .. في الصيف ,هلمي يا رفيقتي نفترش الأعشاب ونلتحف السماء ... ونسمع مسامرة غدير الوادي ... وفي الخريف . تعالي يا محبوبتي ,فالطبيعة قد راودها النعاس فأمست تودع اليقظة بأغنية نهاوند مؤثرة ... وفي الشتاء ...قبليني فالثلج قد تغلب علي كل شيء إلا قبلتك ) (73)
ومن المواضيع الهامة عند الرومي التي نجدها في كتابات جبران فكرة حركية الوجود .
|7حركة الوجود
يري الرومي أن ( الموت والنشأة تعكس التفاعل الدائم للفناء والبقاء في الله , وان الخلق كله يخضع لقانون الحركة الجدلية (الديالكتيكية ) , وهذه الحركة ليست مجرد تعاون ضروري للقوي الايجابية والسلبية , لتناوب النهار والليل والصيف والشتاء وتجاذب الرجل والمراة , يانغ وين ,بل إنها حركة صاعدة لا تستمر طوال التجربة الحسية فقط بل في الحياة الآخرة , إذ الموت يخرج من الحياة والحياة من الموت كما في القران الكريم ) (74)
وقد عبر عن هذه الحركة بقصة ( حبات الحمص وهي أعمق تشبيه لحقيقة الحياة والقصة هي ( تمثيل لفرار المؤمن الحق وعدم صبره علي البلاء باضطراب حبات الحمص وغيرها من الأشياء وعدم استقرارها أثناء الغليان في القدر, وبانطلاقها إلي الأعلي بحثا عن مخرج , إن حبات الحمص الموضوعة في القدر مع الماء المغلي وهي تحس بعدم الراحة في الحرارة وتحاول أن تخرج من الماء ., يخبرها الشاعر بأنها نمت تحت مطر الرحمة الإلهية ومائها ولذالك عليها أن تعاني بعض الوقت في نار القهر الإلهي , وهذا الطبخ والأكل هو في الحقيقة الطريقة الوحيدة أمام حبة الحمص لتصل إلي مستوي أعلي من الكمال ) (75)
والقصة تبين بجلاء أن كل ما في الوجود حركة دائمة لا تنتهي وحتى الموت هو حركة لأنه يتحول إلي حياة وقد عبر الرومي عن هذه الحركة تعبيرا رائعا في قوله (إن كل ما سوي الله آكل ومأكول , الطير تأكل الدود وهي نفسها تأكلها القطط وهكذا دواليك كما المصير في حبات الحمص والحبة من القمح أو الذرة التي تطحن وتخبز وتمضغ لتتحول إلي طاقة ونطفة جديدة وتصبح إمكانيات روحية أخري ) (76)
وجبران يري الوجود حركة ( لأن الحياة لا تمشي القهقري ولا هي تتمهل مع الأمس ) (77) وحين كان النبي علي أهبة الرحيل عن سكان اورفليس , ناجي ذاته العظمي قائلا : (سيدور هذا الجدول دورة بعد , سيهمس همسة أخيرة في إذن هذه الغابة , من بعدها آتيك قطرة , لا تحد إلي محيط لا يحد) (78).وهو في ذالك (يؤمن بوحدة الوجود
التي إذا تحققت تزول المتناقضات , ولا يبقي فارق بين الحياة والموت ,بين الغد والأمس .
وقد جمع في النبي بين متناقضات عديدة , إذ يتكلم في الفصل الواحد عن الحزن والفرح أو عن البيع والشراء أو الجريمة والعقاب أو العقل و الهوى وبين أن الوجود قائم في الحقيقة علي تحرك هذه المتناقضات وتحول الواحد إلي الآخر وإمحاء الفوارق بينها وبذالك تكون مظاهر مختلفة لوجود واحد , يقول النبي ( ما هو الشر إن لم يكن الخير بعينه وقد برح به عطشه وجوعه ؟ ) ( إنما فرحكم حزنكم وقد بات سافرا ) (79)
ومن حركة الوجود هذه يكون موضوع السفر رمزا للرحلة الروحية وهو موضوع عرفته كل الديانات (80)
وعند الرومي أن هجرة الرسول صلي الله عليه وسلم من مكة إلي المدينة هي رمز للرحلة الروحية بل إن الحج ليس إلا رمزا آخر للسفر الروحي لذالك علي الإنسان أن يترك البلد الذي ولد فيه ويسلك الطرق الصعبة كما يتعلم المريد المتصوف من شيخه ليظفر بمملكة الروح (81)
وجبران في ( نبيه ) جعل السفر مطلبا أساسيا يقول
(غير أن الرحيل لابد منه ,فالبحر الذي يدعو الكل إليه يدعوني كذالك , وعلي أن أذعن وأبحر من هنا ......إني علي أهبة الرحيل وشراع لهفتي في انتظار الريح ) (82)
لقد جعل جبران نبيه ينتظر سفينته ليعود إلي جزيرته المقدسة أو الفردوس المشتهي
وعودة المصطفي إلي وطنه رحلة روحية والتحام مع المطلق .
وكثيرا ما طرح جبران فكرة السفر رمزا للتحرر من أدران المادة ووسيلة فضلي للوصول إلي الحقيقة وقد عبر عن ذالك في (التائه) و قصصه التي هي زبدة ما كابد من مرارة في أيامه تحمل دلالات متقاربة في الطرح والمضمون لما حدث به المصطفي أهل اورفليس ,ذالك لأن التائه انكشف له الكثير هو الآخر( من شؤون الفسحة مابين الموت والحياة) فتحدث في مواضيع عديدة , الجسد والروح والله والجمال والشرائع والزمن .
.
وإذا كان الرومي وجبران متقاربين في هذه المستويات فإن نظرتهما إلي اللغة فيها بعض التقارب.
8\اللغة وحدود المعني :
الرومي وان لك يكن غامضا جدا في أسلوبه كابن عربي والحلاج فانه مع ذالك يشترك مع المتصوفة عموما في كون اللغة لديه (ليست شكلا يحمل مضمونا أو وعاءا يحمل مضمونا بل إن الشكل يصبح هو المضمون والمضمون يصبح هو الشكل وتصبح الكتابة واللغة هاجسا يعبر المتصوف من خلاله عن توتره وقلقه ,ويريد من خلال هذه اللغة أن ينفذ إلي ما وراء المألوف والمعتاد ,انه ينطلق من الحياة ولكن ليس للعودة إليها, وإنما نحو المطلق والدائم والمدهش, إن اللغة تصبح في حد ذاتها تجربة لا تعبيرا عن تجربة ,إن ممارسة الكتابة عند المتصوفة تعني أولا تساؤلا عن لغتها الذاتية قبل أن تتساءل عن موضوعات تلك اللغة ومجالات توزعها مما يعني أنها تضع إمكانياتها الخاصة موضع التساؤل) (83)
يقول الرومي مبينا ميزة الكتابة الصوفية وخرقها للمألوف وسر رمزيتها لأنها تقوم علي الأحوال والمواجد (لو اتيح لي أن اتصل بعقلي لقلت كل ما يمكن أن يقال)(84)
وقد عبر عن سر هذه التجربة واللغة الصوفية بقوله (التكلم بالكلمات يعني إغلاق تلك النافذة
وظهور الكلمة هو تماما حجابها) (85)
(الألفاظ كالضفائر التي تغطي وجه الحسناء الفاتنة وينبغي أن تزاح ليري الوجه الوضيء كالشمس ) (86) (اللفظ هو الوكر الذي يستريح فيه الطائر (المعني) ) (87)
حاول الرومي كأي صوفي فك الخيط أو اللغز الذي يربط اللفظ بالمعني ,أو التجربة والتعبير فرأي أن (الألفاظ ليست سوي غبار علي مرآة التجربة ,غبار انبعث من حركة المكنسة (اللسان )وأما المعني الحقيقي روح القصة فلا يمكن العثور عليه إلا عندما يقف المرأ نفسه في حضرة المعشوق حيث لا يبقي غبار ولا صور) (88)
اللغة عند الرومي مثل النفس البشرية في سعتها وغموضها,ولا يمكن أن تعبر بالضبط أو بصورة أدق عن ما يريده المتكلم أو الصوفي أو الشاعر (الحرف والنفس والقافية كلها غريبة نائية أغيارا) (89)
وجبران يري أن (الألفاظ أجسام لا قيمة لها في ذواتها ,وقيمتها الفعلية في معناها وهو الروح الذي ينفخ الحياة في تلك الأجسام , ومن الجلي أن جبران يعني بهذا انه لا يعتبر الكلام أو اللغة إلا وسيلة رافضا بازدراء ذالك الاعتقاد الذي تمسك به التقليديون الذين عاصروه , فهو لا يجاريهم في الانصراف الكلي إلي الاهتمام بالكلام وأوزانه لاعتقاده أن ذالك ما يقلل من شان الكلام إذ يجعله (جثثا محنطة باردة ) )(90)
اللغة الجبرانية مثل اللغة الصوفية تنشد القعر أو كنه المراد ,وقد ابتدع جبران لغة خاصة مع انه تأثر كثيرا بتراث وحدة الوجود كصورة البحر والجدول والماء والقطرة (91)
إلا انه مع ذالك (استطاع أن يوسع مدي العربية ... باعتماده الكلمات المألوفة ليس غير حتى بلغ بها مجالات لم تعرفها من قبل وقد كانت احدي مزاياه ولعله تعهدها متقصدا أن يتحامى التحول عن اللغة المألوفة حتى في التعبير عن موضوعات رفيعة مثل الصوفية ووحدة الوجود ,الأمر الذي استطاع تأديته ببراعة تامة دون اللجوء إلي لغة المتصوفة والقائلين بوحدة الوجود ,تلك اللغة المتخصصة إلي ابعد حد ,إذا لم نقل الغريبة تماما ) (92)
وموقف جبران من اللغة يكاد يكون متطابقا مع الرومي وعامة المتصوفة في كون اللغة هي العتبة الأولي والأخيرة في التجربة الصوفية أو الوجودية أو الشعرية
وهنا يكمن الإشكال الكبير في أن اللغة لا تستطيع أن تفصح إلا عن المحدود كما عبر فريد الدين العطار النيسابوري في منطق الطير (ما أكثر ما قلت ولكن الطريق صمت مطبق ) (93)
يقول جبران (إنما الشعر كثير من الفرح والألم والدهشة مع قليل من القاموس ) (94)
ويقول معظما اللغة ( الألفاظ لا تتقيد بقيود الزمان فيجدر بك إذا تكلمت أو كتبت أن تضع هذه الحقيقة نصب عينيك ) (95)
وإذا كان جبران قد أبدع لنفسه لغة خاصة هي مزيج رائع من الأخيلة والصور المستوحاة من ثقافات عديدة ومن الرسم الذي درسه واشتغل به حتى آخر حياته , فانه مع ذالك (قد أورد الكثير من التعابير الصوفية المستعملة عند المتصوفة أمثال المجاعة الروحية ,العاقلة , الشوق , الحنين , السكينة , الرؤيا , ألذات المعنوية , ) (96)
9\ وأخيرا هل تأثر جبران حقا بالرومي؟
جبران وان اشترك (مع المتصوفة عموما في وحدة الوجود والحلولية , أمثال البسطامي والحلاج , وفي الانطلاق من ظواهر الجمال الحسي ,ليستدل علي الحضور الإلهي في الكون , إلا أن حلوليته تتميز عن حلولية المتصوفين في أنها عنده تعلن انتصار الإنسان علي المكان والزمان فيتحول هذا الإنسان شيئا فشيئا إلي كائن كامل إلي إله يستوطنه الوجود , في حين أنها عندهم تعلن انتصار الإنسان علي ذاته الضعيفة وفنائه النهائي في الله المتمتع بالوجود الحقيقي , وقد يكون ابن عربي وحده شارف النظرية الجبرانية في اعتقاده بالإنسان الكامل الذي هو النبي (محمد صلي الله عليه وسلم ) وكل نبي وفي أن كل إنسان مؤهل بالسلوك الصوفي الحق لصيرورته إنسانا كاملا لكن الله يبقي عند ابن عربي كما بقي عند غيره من أئمة الصوفية الكائن الحق اللا محدود , المتميز بالتعالي عن الإنسان مهما سما به كماله , الشيء الذي لم يعتنقه جبران لان الفكرة المحورية عنده هي الإنسان أولا وأخيرا , الإنسان المتفوق الذي يتأله ليغيب وجه اله اللاهوت أما بقية الميول الصوفية كالإيمان بسلامة المعرفة القلبية وعقم الاجتهاد العقلي والاستكشاف الباطن بالصدوف عن المظاهر الخارجية العارضة والاهتمام ببواطن الأشياء وبباطن الذات وهاجس الشوق والحنين المؤدي إلي اليقظة الروحية والسعي إلي الكمال الشخصي بتجاوز الواقع الوضيع ثم اعتماد الحب أو المحبة كصفة خلقية أساسية للتكامل , هذه الميول الأساسية في الفكر الصوفي تلاقي عند جبران التجاوب الواضح والصريح ) (97)
ما رآه الأستاذ خالد غسان مشتركا بين جبران والمتصوفة عموما يبدو مجانبا للصواب ومنطقيا ,لكن ما ذهب إليه من تغييب وجه اله اللاهوت عند جبران ففي نظرنا انه لا يمكننا القول به لأن جبران عاش مراحل فكرية متناقضة انعكست في نتاجه الأدبي ووصمته بالتناقض في بعض آرائه مما يجعل من الصعب الحكم عليه في هذه النقطة أو تلك وخصوصا نظرته الصوفية التي تحتمل تأويلات لا تنتهي, وآراء جبران فيها لا تخلو من غموض وتناقض ,ثم إن المراحل الزمنية الفكرية التي عاشها ليست معروفة زمنيا لان نشر كتبه لا يتوافق دائما مع تاريخ كتابتها (98)
وهذه المراحل مهمة في معرفة آراء جبران وقد رأي جميل جبر أن أبرزها
مرحلة الرومانطيقية و الإشراق وهي الأولي , والمرحلة النيتشوية وهي الثانية وقد هيمن عليها الصراع بين الخير والشر ومبدأ إرادة التفوق والتآلف مع الحياة والطبيعة ,ثم المرحلة الثالثة وهي مرحلة الرسولية , مرحلة الارتقاء من المجنون إلي السابق إلي النبي ) (99)
ويبقي التصوف الجبراني غامضا , متناثرا هنا وهناك , ليس منتظما في نظرية معينة تماما كابن عربي في آرائه ومؤلفاته خصوصا الفتوحات المكية الغامضة .
والمهم أن جبران آمن ببعض النزعات الصوفية وتلاقي مع متصوفة كثيرين في بعض الخطوط والأفكار ومن هؤلاء جلال الدين الرومي كما بينا .
وبخصوص معايشة التجربة الصوفية أو هل كان جبران متصوفا سلوكا كالرومي
نري أن جبران لم يكن صوفيا سلوكا, متقشفا زاهدا في الدنيا لأنه هو نفسه قال إنه ينبذ هذا التصوف أو الدين , لكن لا يعني هذا القول إن جبران كان متهافتا علي المال والملذات وشهوانيا كما قدمه البعض من أصدقائه بل أقربهم إليه الأستاذ نعيمة ( (100,ذالك لأن الصورة التي رسمها نعيمة عن حياة جبران تعرضت للكثير من النقد اللاذع ممن عرفوا جبران شخصيا وعاشوا معه ,وفي النهاية لاتهمنا هذه الصورة كثيرا إلا بقدر ما تكشف لنا عن ما يكتنف داخل نصوص جبران ,لا بحثا عن العظمة أو الانحطاط به , بل بغية الحقيقة ,وبدل الخوض في الحكايات والأقاويل التي لا سند لمعظمها ,والمباحث (النفسية ,