الفِكرُ بينَ المنهجِ والتقليد
بقلم المهندس عدنان الرفاعي
.. الفِكرُ هو تفعيلُ طاقةِ الذاتِ لتعقّلِ الظواهرِ التي يتفاعلُ معها الإنسانُ بثقافتِهِ، وبأدواتِ حياتِهِ المختلفةِ .. ففِكرُ الأُمّةِ هو آليّةُ تدبُّرِها وتفاعُلِها مع المعارفِ، ومنظارُها إلى آفاقِ الحياةِ بشتّى أشكالِها، وبالتالي هو المنهجُ الناظِمُ لِطُرقِ التعقّلِ والإدراكِ في استنباطِ المعرفةِ، وناظِمُها في تفاعُلِها مع هذه المعارف ..
إنّ الفِكرَ هو خُلاصةُ الثقافةِ والتجرِبةِ الحياتيّةِ للإنسان، والقُوّةُ الموجِّهةُ لتفاعلِ أبناء الأمّة مع المعارف، ولخلقِ الآليّاتِ المعرفيّةِ للنهوضِ الحضاريِّ، بوجهيهِ الروحيِّ والمادّيِّ ..
والفِكرُ ليس نموذجاً مُحدَّداً يتفاعلُ معه الإنسانُ – في كلِّ زمانٍ ومكانٍ – كثابتٍ يأخذُهُ بطبيعةٍ ثابتة .. إنّه تفعيلٌ مُستَمرٌّ لتعقّلِ المادّةِ الثقافيّةِ التي بين يديِّ الإنسانِ وفي أُفُقِ رؤاه، ولتعقّلِ ماهيّةِ الأدواتِ الحياتيّةِ والحضاريّةِ التي بين يديه .. كلُّ ذلك من مناظيرَ تتطوّرُ تطوُّراً مُوازياً للتطوّرِ الفكريِّ الذي تُنتجُهُ الأُمّة ..
ولذلك نرى أنّ كَلِمَةَ الفِكرِ ( وكذلك كلمةَ العقلِ ) لم تَرِدْ في كتابِ اللهِ تعالى بالصيغةِ الاسميّةِ ولا لو مرّةً واحدةً، وأنّ ما يَرِدُ هو الصِّيَغُ الفِعليّةُ .. فبمقدارِ ما يَتِمُّ تفعيلُ الذاتِ وتعقُّلُها في إنتاجِ الأُسُسِ المعرفيّةِ البنّاءةِ، بمقدارِ ما يتمُّ إنتاجُ الفِكر ..
والمفكِّرُ هو من يُبدِعُ آفاقاً جديدةً، تنتظِمُ وِفقها ثقافةُ الأُمّةِ، لتنتقلَ إلى نُقطةٍ مُستقبليّةٍ على محورِ الزمن .. أي هو من يَفتَحُ آفاقاً جديدةً لِنقلِ فِكرِ الأمّةِ وثقافتِها إلى الأمام .. فالمفكِّرُ يُنتجُ الثقافةَ المستقبليّةَ التي تتقدّمُ الأُمّةُ إليها ..
من هنا .. علينا أن نُميّزَ بين من يُنتِجُ الفِكرَ فَيُبدِعُ مناهجَ جديدةً في التفكيرِ، تنقُلُ من يسيرُ بها إلى السُّموِّ الفِكريِّ والثقافيِّ، وبين من يستهلِكُ هذا الفِكرَ، فيجترُّهُ بِشكلٍِ مُستمرٍّ ليبقى في النقطةِ الفِكريّةِ ذاتِها على محورِ الإبداعِ الفكريِّ .. أي علينا أن نميّزَ بين الفِكرِ كمنهجٍ إبداعيٍّ لآليّاتِ التطوُّرِ، وبين التقليدِ الذي لا يتجاوزُ التفاعلَ مع مرحلةٍ فِكريّة مُحدّدةٍ مُنتَجَةٍ في مرحلةٍ زمنيّةٍ محدّدة ..
.. فمعيارُ الإنتاجِ الفِكريِّ هو الإبداعُ المُبرهَنُ، والتجديدُ الهادِفُ، للسموِّ بثقافةِ الأُمّةِ وفِكرِها .. وحينما يتوقّفُ الإبداعُ والتجديدُ في الفِكرِ، فهذا يعني أنّ الأُمّةَ لا تُنتِجُ الفِكرَ، وبالتالي لا تُفكِّر ..
لذلك نرى أنّ الإنتاجَ الفِكريَّ يكون في مُعظَمِ حالاتِهِ على خِلافٍ مع ثقافةِ العامّةِ وفِكرِهِم، وأنّهُ يدفعُهُم – مع الزمن – للاتّجاهِ بثقافتِهِم وفِكرِهِم إليه، من خلالِ حوارِهِم وتفاعُلِهِم معه ..
.. هذا هو القانونُ التاريخيُّ الذي يَنْظُمُ الحركةَ الثقافيّةَ والفِكريّةَ في التاريخِ البشريِّ .. ولكن .. حينما يكونُ فِكرُ العامّةِ، وثقافتُهُم، وما اعتادوا عليه كتقليدٍ عن آبائهم، ناظِماً للإنتاجِ الفِكريِّ عند الأُمّةِ، فهذا يعني موتَ الإنتاجِ الفِكريِّ عند هذه الأُمّة، واجترارَ الماضي، وبالتالي خروجَها من التاريخِ كأُمّةٍ فاعِلةٍ فيه، ومُحرِّكةٍ لقوانينِهِ ..
إنّ ثقافةَ العامّةِ تدورُ دائماً في فَلَكِ التقليدِ والخوفِ من التجديدِ الفِكريِّ، وبالتالي فإنّ الإنتاجَ الفِكريَّ يقومُ على أكتافِ الخاصَّةِ الذين يحملون مسؤوليّةَ التجديدِ الفِكريِّ للأُمّةِ، من خلالِ جُرأتِهِم للحقِّ، وإصرارِهِم وتضحيتِهِم في سبيلِهِ ..
وهكذا .. فثقافةُ الأُمّةِ تعني رصيدَهَا المعرفيَّ .. وإنتاجُها الفِكريُّ يعني درجةَ التعقّلِ والإبداعِ والتجديدِ في هذا الرصيدِ المعرفيِّ .. فقد تُوجَدُ ثقافةٌ دونَ أن يُوجَدَ إنتاجٌ فِكريٌّ .. ولكنْ من المستحيلِ إنتاجُ الفِكرِ دونَ وُجودِ قاعدةٍ معرفيّةٍ يُبنى عليها هذا الإنتاجُ الفكريُّ ..
وما بين الإنتاجِ الفِكريِّ والنهوضِ الحضاريِّ تلازمٌ تامٌّ، فدونَ الإنتاجِ الفكريِّ لا تُنتَجُ الحضارةُ ولا تتطوَّر .. إنّ الثقافةَ تجعلُنا قادرينَ على التفاعلِ مع الحضارةِ القائمةِ، ولكنّها – دونَ الإنتاجِ الفكريِّ – لا تؤهِّلُنا لإنتاجِ الحضارةِ والنهوضِ بها إلى درجةٍ أعلى على سُلّمِ التقدّمِ الحضاري ..
فالأُمّةُ التي لا تُنتِجُ الفِكرَ لا تتطوّرُ حضاريّاً، وبالتالي تتأخَّرُ – بالنسبةِ لغيرِها من الأُمم المنتجةِ للحضارة – على سُلّم التقدّم الحضاري، ويبدو زمنُها وكأنّهُ يسير باتّجاهِ الماضي ..
واستمرارُ النهوضِ في البناءِ الحضاريِّ باتّجاهِ الأمام، ولمصلحةِ البُعدِ الإنسانيِّ، يَتطلّبُ من الإنتاجِ الفِكريِّ أن يحويَ بماهيّتِهِ نُهوضاً في القِيَمِ الإنسانيّةِ البنّاءةِ، موازياً للنهوضِ المادّيِّ في الحضارةِ المدنيّةِ المُنتجَةِ، وإلاّ فسيطغى الجانبُ المادّيُّ في النهوضِ الحضاريِّ على جانبِهِ الروحيِّ، وستتحوّلُ الحضارةُ المُنتَجَةُ إلى عِبءٍ على الإنسانيّةِ، بدلاً من كونِها خادمةً لها ..
فالنهوضُ المادّيُّ يتطلّبُ نهوضاً روحيّاً موازياً، وإلاّ فالحضارةُ المُنتَجَةُ ستكونُ مَدَنيّةً تتناسبُ عكسيّاً مع مصلحةِ الإنسانيّةِ .. وفي قِصّةِ فِرعونَ أكبرُ دليلٍ على ذلك، حيث النهوضُ المدنيُّ كان في أوجِهِ .. فهندسةُ العُمران، والتحنيطُ في مجالِ الطبِّ، وغيرُ ذلك من العُلوم، بلغَ ذُروتَهُ، في الوقت الذي وصلتْ فيه القِيمُ الإنسانيّةُ إلى الحضيض ..
إنّ الفِكرَ أساسُ تطوّرِ الأمَمِ وتخلُّفِها، فإلى درجةِ اقترابِهِ من الحقِّ ومصداقيّتِهِ تُرجَعُ جميعُ أسبابِ التطوّرِ والنصرِ، وإلى درجةِ ابتعادِهِ عن الحقِّ تُرجعُ جميعُ أسبابِ التخلُّفِ والهزيمةِ .. فخلفَ كُلِّ حالةٍ للأمّةِ مقدّماتٌ فِكريّةٌ أدّتْ إلى هذه الحالةِ ..
وعلى هذا الأساسِ فإنّ الدعوةَ إلى إيقافِ الإنتاجِ الفِكريِّ، والزعمَ بأنّ الفِكرَ المُنتجَ في مرحلةٍ تاريخيّةٍ مُحدّدةٍ يَصْلُحُ للتطوّرِ الحضاريِّ في كلِّ زمانٍ ومكان، هي دعوةٌ لإيقافِ التطوّرِ الحضاريِّ روحيّاً ومادّيّاً، لأنّ الفِكرَ المولودَ في مرحلةٍ تاريخيّةٍ مُحدّدةٍ لا يَصْلُحُ إلاّ لإنشاءِ حضارةٍ محدّدةٍ، لا تخرُجُ عن الإطارِ التاريخيِّ الذي وُلِدَ فيه هذا الفِكر ..
وحتى الكثيرونَ من مُنَظِّري الفِكرِ الإسلاميِّ سقطوا في أنفاقِ هذا الدعوةِ، زاعمين أنّ فِكرَ السَّلَفِ الصالحِ المصوغ بلون الخصوصيّة الحضارية التي عاشوها في عصرهم صالحٌ لإنتاج الحضاراتِ المتجدِّدةِ حتى قيامِ الساعةِ، مُعْرِضين عن حقيقةِ حملِ القرآنِ الكريمِ ( أساس الإسلام ) لينابيعِ الإنتاجِ الفِكريِّ الذي تُنشَأُ عليه الحضاراتُ حتى قيامِ الساعةِ، غيرَ مُدركين لحقيقةِ الفصلِ بين الأحكامِ الثابتةِ التي تحمِلُ تِبيانَ الشعائر، وبين الأحكامِ المتجدّدةِ مع الزمنِ التي يحملُها النصُّ القرآنيُّ ذاتُهُ لكلِّ جيلٍ بما يُناسِبُ حضارتَهُ، مُتناسينَ قولَ اللهِ تعالى الذي يُبيّنُ أنّ إدراكَ دلالاتِ القرآنِ الكريمِ في تَصَاعُدٍ مُستمرٍّ حتى قيامِ الساعةِ، وليستْ ثابتةً ولا تخرجُ عن إدراكِ الأجيالِ الأولى كما يتصوّرون ..
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(فصلت: 53)
فمعظمُ هؤلاءِ المنظِّرين للفِكرِ الإسلاميِّ، جعلوا من التفسيرِ التاريخيِّ للنصِّ القرآنيِّ، قرآناً بديلاً عن النصِّ القرآنيِّ ذاتِهِ، فهذا نصٌّ منسوخٌ ( حَسْبَ زعمِهِم )، وذاك نصٌّ تحُيطُ بدلالاتِهِ رِواياتُ أسبابِ النزول، وذاك نصٌّ لا تخرُجُ دلالاتُهُ عن حديثٍ منسوبٍ إلى الرسولِ r.. بالنتيجةِ تمّ التنظيرُ والدعوةُ إلى تصوّراتٍ تاريخيّة، تحت ظلالِ الدعوةِ إلى كتابِ اللهِ تعالى .. أي تمَّ تحويلُ بعضِ جوانبِ التاريخِ إلى منهج ..
إنّ معظمَ الأيدلوجيّاتِ الفِكريّةِ التي وقفتْ وراء مُعظمِ الدَّعَواتِ الثقافيّةِ والفِكريّةِ والسياسيّةِ في تاريخنا العربيِّ، كانت إمّا مُستوردةً من الخارِجِ، وإمّا مَبنيّةً على فِكرِ مرحلةٍ تاريخيّةٍ محدّدةٍ دون الأخذِ بعين الاعتبارِ حقيقةَ التجديدِ الفِكريِّ التي يجبُ أن تَنْبُعَ من ماهيّةِ الفِكرِ ذاتِه ..
لذلك فالمشكِلةُ دائماً تكمُنُ في اللاحقين الذين يحسَبونَ التقليدَ فِكراً، والاتّباعَ الأعمى نهوضاً، والعصبيّةَ العمياءَ ثقافةً بنّاءة .. وكلُّ ذلك تمثّلاً لوصف الله تعالى ..
( إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ )( الصافات : 69 – 70 )
( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ )( الزخرف : 22 )
المشكلةُ أنّنا في مُعظمِ محطّاتِنا التاريخيّةِ كُنّا نُقدِّمُ نُهوضَ الأُمّةِ على أساسٍ تاريخيٍّ، لا على أساسٍ فِكريٍّ، متناسينَ حقيقةَ النهوضِ الحضاريِّ الذي لا يكونُ من خلالِ التاريخِ، إنّما من خلالِ الفِكر ..
لو نظرنا إلى أسبابِ تخلُّفِنا الحضاريِّ بالنسبةِ للأُممِ الأُخرى، لرأيناها تنقسِمُ إلى أسبابٍ خارجيّةٍ وأسبابٍ داخليّة ..
[ 1 ] – الأسبابُ الخارجيّةُ، تتمحورُ حولُ نقطتينِ أساسيّتين :
( أ ) – المؤامراتُ المستمرّةُ على هذهِ الأمّةِ .. ولو عُدنا إلى حقيقةِ الأمرِ وبحثنا بحثاً موضوعيّاً في أسبابِ نجاحِ هذه المؤامراتِ في تحقيقِ أهدافِها، لرأينا بناءَ نجاحِها مبنيّاً من لَبِنَاتِ ضعفِنا، وتقصيرِنا في مُواجهةِ هذه المؤامراتِ، وخلافاتِنا المذهبيّةِ والطائفيّةِ والإقليميّة ..
فلو ارتقينا إلى المُستوى المطلوبِ في مواجهةِ هذه المؤامرات، لما تحقّقتْ أهدافُها كما يُريدُ أعداءُ هذه الأمّةِ .. فالسبيلُ إلى مُواجهةِ هذه المؤامراتِ هو الوعيُ والعَمَلُ وعدمُ الانخراطِ في الخِلافاتِ الجانبيّةِ .. وكلُّ ذلك لا يكونُ إلاّ من خلالِ فِكرٍ سَليمٍ يصهرُ أبناءَ هذه الأُمّةِ في بَوْتَقَةٍ واحِدةٍ لإنتاجِ لَبِنَاتِ بِناءِ المواجهةِ الذي تتحطّمُ عليه كلُّ المؤامرات ..
فلو كان فِكرُنا سَليماً لقدَّمنا ثقافةَ الاتّفاقِ فيما بينَنا على ثقافةِ الاختلاف، ولما تقاتلنا، ولما كفّر بعضُنا بعضاً، ولما احتكَرَ كلٌّ منّا الخَلاصَ لنفسِه، ولتمثَّلنا قولَ اللهِ تعالى :
( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )( المائدة : 2 )
( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ )( فصلت : 34)
( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )( الممتحنة : 8 )
وهكذا نرى أنّ السَّبَبَ الأوّلَ لنجاحِ المؤامراتِ الخارجيّةِ على هذهِ الأُمّةِ هو بعضُ سِلبيّاتِ فِكرِنا ..
( ب ) – السببُ الخارجيُّ الآخرُ هو التقدّمُ الحضاريُّ للأُممِ الأُخرى، في الوقتِ الذي نُراوحُ فيه مكانَنا، وبالتالي تَسْبِقُنا الأُممُ فلا نستطيعُ مواكبتَها ولا نُدافِعُ عن أنفُسِنا إلاّ بأدَوَاتٍ حضاريّةٍ مُتخلّفةٍ عن الأدواتِ التي تملِكُها تلكَ الأُمم .. ولو عُدنا إلى جُذورِ تخلُّفِنا الحضاريّ هذه، لرأيناها فِكريّةً، فعَدَمُ اتّباعِنا لِسُبُلِ العِلمِ والنهوضِ الحضاريِّ في الوقتِ الذي اتّبعَ فيه غيرُنا هذه السبلَ، مسؤوليّتُنا، ومسؤوليّةُ فِكرِنا .. فما زلنا نعتقدُ أنّ سيفَ عنترةَ يَصْلُحُ لمواجهةِ الطائرةِ وكُلِّ التكنولوجيا الحديثةِ التي ينتجُها الآخرون ..
[ 2 ] – الأسبابُ الداخليّةُ، يمكنُنا حصرُها في نُقطتين :
( أ ) – تقصيرُنا في العملِ وانحلالُ سلوكِنا في الكثيرِ من المفاهيمِ ( مقارنةً مع الكثيرِ من الأممِ )، وهذا كلُّهُ سببُهُ الهشاشةُ الفِكريّةُ التي تُنتِجُ – مع الزمن – سُلُوكاً هَشّاً، ينهَارُ أمامَ أيِّ عاصِفةٍ مهما كانتْ ضعيفةً .. فالمصلَحَةُ الفردِيّةُ عند الكثيرينَ مُقدَّمَةٌ على مصلحةِ الأمّةِ، والتنظيرُ أكثرُ بكثيرٍ من العملِ، وكأنّنا نتمثّلُ قولَ اللهِ تعالى ..
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) ( الصف : 2 – 3 )
( ب ) – أسبابٌ فِكريّةٌ محضَةٌ، وذلك باعتناقِ بعضِ الأفكارِ التي ما أنزلَ اللهُ تعالى بها من سلطانٍ، والتي تُشتِّتُ طاقاتِ الأمّةِ، وتُفرِّقُ أبناءَها إلى مذاهبَ وطوائفَ، كلٌّ منها يضَعُ الآخرينَ في خَنْدَقِ العدَاءِ الفِكريِّ، وكأنّنا نتمثّلُ قولَ الله تعالى ..
( فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )( المؤمنون : 53 )
.. إنّ فِكرَ الماضي هو مقدِّمةُ الوضعِ الراهِن .. فالحضارةُ، والصِّناعةُ، والتطوُّرُ بشتّى أشكالِهِ، والقِيَمُ الروحيّةُ، يسبِقُها فِكرٌ يدفعُ ثقافةَ الأمّةِ وهمّةَ أبنائِها باتّجاهِ وضعِها الراهِن، فحالُ الأمّةِ نتيجةُ فِكرِ الماضي، وفِكرُ الأمّةِ هو مقدِّمةُ مُستقبلِها الحضاريِّ ..
من هنا نرى أنّه لا يمكنُ أن يتغيّرَ حالُ الأُمّةِ إلاّ بتطوُّرِ فِكرِها إلى درجةٍ يسموا بها أبناءُ الأمّةِ إلى مُلكِ إرادةِ التغييرِ الصادقةِ للنهوضِ والعملِ البنّاء .. فالتغييرُ الفعّالُ يبدأُ بالنفسِ، وذلك تمثّلاً لقولِ الله تعالى ..
( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )( الرعد : 11 )
وفي وُرودِ كلمةِ ( بِأَنْفُسِهِمْ )في هذه الصورةِ القرآنيّةِ بدلاً من ( في أنفسِهِم ) دليلٌ على أنّ التغييرَ المطلوبَ الذي يُغيِّرُ من حالِ الأًُمّةِ هو في ماهيّةِ الأنفسِ ( بِأَنْفُسِهِمْ )، وليس في بعضِ ما تحويه هذه الأنفسُ ( في أنفسِهِم ) ..
ففي هذه الصياغةِ القرآنيّةِ نستشفُّ حقيقةً مفادُها : أنّ الفِكرَ يُغيِّرُ في ماهيّةِ النفسِ، ولا يقتصرُ تغييرُهُ على ما تحويه النفسُ من ثقافةٍ وتصوّرات، فما بين استمراريّةِ الفِكرِ ذاتِه زمناً طويلاً وبين ماهيّةِ النفسِ تُوجَدُ علاقةُ تأثيرٍ مُتَبَادَلةٌ، تجعلُ من فِكرِ الأمّةِ – مع الزمن – مؤثِّراً هامّاً في تحديدِ لونِ نُفوسِ أبنائِها ..
هذا اللونُ الناتِجُ عن فِكرٍ مَوروثٍ لزمنٍ طويلٍ، والذي يَصْبُغُ النفسَ بلونِ هذا الفِكرِ، يُعطي الأُمّةَ هُويَّةً مصبوغَةً بذاتِ اللونِ، فحتى المولودونَ في الأمّةِ يحملونَ إمكانيّةًً أكبرَ لحملِ هذا اللونِ، وتأتي التربيةُ لِتَصْبُغَ أنفسَهُم به ..
.. هذه الحقيقةُ أدركَها نوحٌ عليه السلام، نتيجةَ تَجْرِبَتِهِ لأكثرَ من تِسعةٍ قُرونٍ معَ أجيالٍ صُبِغَتْ أنفُسُها باللونِ ذاتِهِ من الكُفرِ والإعراضِ عن منهجِ اللهِ تعالى، حتى أصبحَ المولودُ فيها قريباً من هذا اللونِ، نتيجةَ فِكرِ آبائِهِ لقرونٍ طويلةٍ، ويتعمَّقُ هذا اللونُ في نفسِهِ نتيجةَ التربيةِ في المجتمعِ الذي تتالتْ عليه تلك الأجيالُ ..
( وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً )( نوح : 26 – 27 )
.. كلامُنا هذا لا يعني ناموساً يُلغي الفِطرةَ التي يحمِلُها المولودُ، ولا يعني قانوناً عامّاً لا استثناءَ فيه، فكُلُّ مولودٍ يحمِلُ من الروح ( الصلة والقربى من الله تعالى ) ما يجعلُهُ على الفِطرةِ الطاهرةِ النقيّة ..
( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ )( السجدة : 7 – 9 )
وإبراهيمُ عليه السلام وُلِدَ من أبٍ كافِرٍ، ونوحٌ عليه السلام أنجبَ وَلداً كافِراً .. فما نعنيهِ هو أنّ المجتمعَ بإطارِهِ العامِّ تَنْصَبِغُ نفوسُ أبنائِهِ بلونِ الفِكرِ الذي يتِمُّ تداولُهُ فيه زمناً طويلاً، لدرجةِ حملِ مُعظَمِ المولودينَ في هذا المجتمعِ إمكانيّةً أكبرَ للتلوُّنِ بهذا اللونِ، وتأتي التربيةُ فيما بعدُ لتعمِّقَ هذا اللونَ في نفوسِ معظمِ هؤلاء المولودينَ في هذا المجتمع ..
ويمكنُنا أن نختزلَ أهمَّ معاييرِ سَلامةِ الفِكرِ، وتحديدِ دَرَجةِ كونّهِ بنّاءً ودافِعاً للأُمّةِ نحو الأمام، بالنِّقاطِ التالية :
* – الفِكرُ البنّاءُ يدفعُ بأبناءِ الأمّةِ نحو ثقافةِ الاتّفاقِ، ويُبعِدُهم عن ثقافةِ الاختلاف، وعن الزعمِ بامتلاكِ الحقيقةِ الكامِلَةِ دونَ الآخرين ..
* – الفِكرُ البنّاءُ يحملُ بماهيّتِهِ إمكانيّاتِ الإبداعِ الفِكريّ، والنُّهوضِ الثقافيِّ والحضاريِّ، مُبعِدَاً الأمّةَ عن التقوقُعِ في دهاليزِ التقليدِ واجترارِ الماضي ..
* – الفِكرُ البنّاءُ يدفَعُ كلَّ فردٍ من أبناءِ الأمّةِ نحو السُّموِّ في علاقاتِهِ الإنسانيّةِ مع الآخرين، فينظُرُ إلى الآخرينَ من المِنظار ذاتِهِ الذي ينظُرُ فيه إلى نفسِهِ .. ولا يحتكرُ الخلاصَ لنفسِهِ ومذهبِهِ، ولا يبخَسُ الآخرينَ فِكرَهُم ..
* – الفِكرُ البنّاءُ يخْلُقُ في نُفوسِ أبناءِ الأمّةِ توازُناً مُستمرّاً بين التطوُّرِ المدنيِّ من جهةٍ، وبين السُّموِّ في القِيَمِ والمبادئِ والأخلاقِ من جهةٍ أُخرى ..
* – الفِكرُ البنّاءُ يجعلُ من تاريخِ الأُمّةِ منجَماً لِصِناعَةِ آليّاتِ تَقويمِ رؤاها الفِكريّةِ البنّاءةِ نحو المستقبلِ، لا منجماً لصناعةِ الأقنعةِ المذهبيّةِ والطائفيّةِ التي لا تزيدُ الأمّةَ إلاّ تشرذماً ..
* – الفِكرُ البنّاءُ يجعلُ من أفرادِ الأمّةِ قادرينَ على مُلْكِ إرادةِ التغييرِ في مصيرِهِم الاجتماعيِّ والثقافيِّ والسياسيِّ .. فإرادتُهُم لا يُصادرُها أحدٌ، وتسمو لتكونَ عصا موسى عليه السلام، التي يضربونَ بها ليصنَعُوا المعجزات، لا عصا فِرعونَ التي يُضرَبونَ بها ليرَوا فِرعونَ فوقَ كُلِّ المعجزات ..
وهكذا .. فالأُمّةُ التي تُعرِضُ عن إنتاجِ الفِكرِ وصُنعِ الحضارةِ، تُبعِدُ نفسَها عن المشاركةِ في رَسْمِ حَرَكَةِ التاريخِ، وتقرِّرُ – سواءٌ علمتْ بذلكَ أمْ لمْ تعلمْ – مشاركةَ أبنائِها للحيواناتِ في الخُروجِ من ساحةِ هذا التاريخ ..
المرجع:
http://www.ahl-alquran.com/arabic/document.php?page_id=1146