عن التقسيم الاجتماعي للعمل لدوركايم
أسس التضامن في المجتمع
بقلم: ابراهيم العريس
لم يكن الحديث عن التقسيم الاجتماعي للعمل، أمراً جديداً أواخر القرن التاسع عشر، إذ نعرف، منذ افلاطون على الأقل، ان ليس ثمة كينونة لأي مجتمع، ومهما كان شأنه، من دون ان يكون فيه تقسيم اجتماعي ما، للعمل. هو أمر أكده أفلاطون في «الجمهورية»، ثم أكده من بعده فلاسفة ومفكرون في كل الأزمان، وتحدث بعضهم حتى عن «تقسيم» من هذا النوع في المجتمعات البدائية أو شبه البدائية (ليفي ستراوس، ولا سيما دوفريل في نظرية «الوظائف الثلاث»)، غير ان الحديث النظري والمفصل عن هذا التقسيم، وبالمعنى الحديث للكلمة، إنما نجده بأفضل أبعاده وأعمقها، لدى إميل دركهايم، الفيلسوف الفرنسي وعالم الاجتماع، الذي تبع في ذلك سلفه أوغوست كونت. ومن هنا اهمية كتاب دوركهايم الذي كان من بين أول كتبه التي أصدرها ما إن بدأ نشاطه الفكري بعد تخرجه... ولا عجب في هذا، طالما ان كتاب دركهايم لم يكن سوى تطوير لأطروحته الجامعية حول مسألة «تقسيم العمل الاجتماعي».
> صدر كتاب «في تقسيم العمل الاجتماعي» لدركهايم عام 1993، ليصبح من فوره مرجعاً أساسياً في هذا المجال. وذلك لأن هذا الباحث لم يكتف في هذا الكتاب باستعادة كلام نظري، معروف منذ قديم الزمن حول المجتمع وتقسيماته، بل طبق ما هو معروف وسائد من نظريات، على مجتمعات كان يعيش فيها ويرصدها، ولا سيما في حقبة تغيرات كبرى، نحو العمرنة والتصنيع، وهما أمران رأى دركهايم باكراً، أنهما يسهمان في إحداث تبدلات جذرية، على الصعد الاجتماعية، ولكن ايضاً على الصعد الأخلاقية وخصوصاً على صعيد علاقة الفرد بالمجتمع.
> والحال ان هذه العلاقة الأخيرة، كانت هي ما يهم دركهايم بصورة خاصة، بحيث ان رصده لتطورها، أدى به الى البحث عن جذور وأسباب ذلك التطور في شكل علمي. وما نص هذا الكتاب سوى خلاصة الملاحظات التي توصل إليها. ولعل في إمكاننا ان نقول هنا ان في خلفية هذا الاهتمام كله - وكما يؤكد دارسو حياة دركهايم وأعماله - القلق الذي كان المفكر يستشعره (ويمكن رصده في مجمل أعماله اللاحقة على اية حال)، إزاء مسألة التلاحم الاجتماعي في زمنه، أو في الأزمان الحديثة كلها والتي طغت عليها، كما أشرنا، مسألتا التصنيع والعمرنة. ومن هنا كان اشتغال دركهايم على رصد كيف أن الأفراد، في المجتمعات الحديثة، يزدادون تفرقاً عن بعضهم البعض. وأن هذا التفرق إنما يشمل في طريقه ازدياد استقلالية وعي كل إنسان عن وعي غيره في شكل دؤوب. فإذا كانت الحال على هذا النحو، تساءل دركهايم، وفي عمق صعود النزعة الفردية، كيف يمكن الحفاظ على التلاحم الاجتماعي؟
> منذ مقدمة كتابه، يقدم إلينا دركهايم الفرضية القائلة بأن «في الوقت الذي يتفرق الأفراد أكثر وأكثر عن بعضهم البعض، يتطور التقسيم الاجتماعي للعمل بالوتيرة نفسها، وفي شتى مجالات العيش، اقتصادية كانت أم إدارية أم فضائية أم علمية وما الى ذلك، بحيث ان التخصص، وازدياد الفروق العمودية بين الأفراد، تجعلهم، كأمر واقع، مستقلين الى حد كبير عن بعضهم البعض». وعلى هذا النحو يرى دركهايم ان تقسيم العمل يصبح في مثل هذه الحال مصدراً حقيقياً للتضامن والتلاحم الاجتماعيين، طالما ان ذلك التقسيم، وفي الوقت نفسه الذي يجعل بين الأفراد فروقاً عميقة، يجعل هؤلاء الأفراد يكملون بعضهم بعضاً... أي يجعل ثمة تكاملاً بينهم لم يعد للمجتمعات وللأفراد غنى عنه. ومن هنا يرى دركهايم ان التقسيم الاجتماعي للعمل، هو، بخاصة، مسألة أخلاقية، لأنه على الأقل يجبر الأفراد على ان يعيشوا معاً معتمدين على بعضهم البعض. وهكذا، مع تطور التقسيم الاجتماعي للعمل، نشهد تحولاً جذرياً، للأحسن، في العلاقات الاجتماعية وبالتالي في التضامن الاجتماعي الذي يفرضه هذا كله.
> للوصول الى براهين علمية ومسهبة حول صحة هذه الفرضية، التي يطرحها دركهايم كمسلمة منذ أول كلامه، يقسم الباحث كتابه الى ثلاثة أبواب: في أولها يعالج «وظيفة تقسيم العمل» وفي ثانيها «أسباب التقسيم وشروطه» أما في الباب الثالث، فنراه يتحدث، وحسناً فعل هنا، عن الأشكال غير العادية للتقسيم، أي ما يتعلق بتقسيم العمل ليس انطلاقاً من المجتمع وأخلاقياته واجتماعيته، بل، بخاصة، عن التقسيم الذي يتم فوقياً وبالقوة. في الباب الأول إذن، يحلل دركهايم كيفية انتقال المجتمع، عبر مسألة التقسيم الاجتماعي للعمل، من المجتمع البدائي الى المجتمع الحديث الذي فيه «لا يعود الأفراد مرتبطين ببعضهم البعض برابط ميكانيكي، أي بفعل التشابه في ما بينهم، بل يصبح كل فرد منهم مستقلاً عن الأفراد الآخرين، ليربط بينهم، بحسب دركهايم، رابط جديد يسميه «الرابط العضوي» كنقيض للرابط الميكانيكي (القائم على مفهوم الهوية والقرابة وما شابه)... ومن هنا فإن دركهايم يشرح لنا ان وظيفة تقسيم العمل لا تكون اقتصادية أكثر منها اجتماعية، بحيث ان مهمتها الأولى لا تكون في زيادة ربح الإنتاجية، بل جعل الأفراد أكثر تلاحماً وتضامناً في ما بينهم...
> أما في الباب الثاني، والمتحدث خصوصاً عن اسباب تقسيم العمل وشروطه، فإن دركهايم يصل الى دراسة معمقة لهذه الأمور، ليستنتج في النهاية بأن تقسيم العمل اجتماعياً يصبح في المجمعات الصناعية والعمرانية، ضرورة: حيث بدلاً من وضع الناس وسط ظروف توجد تنافساً في ما بينهم، يوضعون في ظرف يعطي كل واحد منهم استقلاليته كي يتكاملوا بعد ذلك. أو بكلمات أخرى - بحسب تعبير دارسي دركهايم - ينجم عن هذا كله زيادة استقلال الأفراد وبالتالي زيادة الترابط في ما بينهم. وهذا ما يجعل دركهايم يرى ان «تقسيم العمل اجتماعياً يشكل الحل الوحيد والسلمي، للوصول الى تقبل الحياة المشتركة وممارستها في المجتمعات الصناعية الحديثة».
> غير ان دركهايم لا يفوته هنا ان يشير الى ان بعض أنماط تقسيم العمل اجتماعياً، قد تؤدي الى فتن وشرور. فمثلاً إذا دُفع تقسيم العمل الفوقي الى حدود قصوى، سيصبح سبباً للتمزق الاجتماعي، ولا سيما إذا لم يتنبه الأفراد - وبالغوا في تخصصهم وتعزيز الفروقات في ما بينهم - الى اعتمادهم الضروري على بعضهم البعض، ومن شأن هذا ان يوجد تنافراً وتناحراً بين الأفراد، كما بين المجموعات، ولا سيما في غياب نظم وقوانين تضبط العلاقات بينهم أو بينها. وهذه النظم والقوانين، هي التي يستوجب وجودها وجود الدولة، بالطبع، كناظم أعلى، من طريق سن القوانين والسهر على تنفيذها، واحتكار السلاح وتثبيت الأمن، والإمساك بالقرارات المصيرية، لشؤون المجتمع وحياته وسلامة أفراده والانسجام في ما بينهم.
> إميل دركهايم الذي عاش بين 1858 و1917، يسمى عادة الأب الشرعي لعلم الاجتماع الحديث، حتى وإن كان هو يعتبر نفسه مكملاً للمسيرة التي بدأت مع أستاذه أوغست كونت (الذي يرى كثر من الباحثين انه يعتبر المحيي الحقيقي في العصور الحديثة لعلم الاجتماع الذي ابتدعه ابن خلدون في القرن الخامس عشر، علماً بأن دركهايم كان هو الذي وجّه تلميذه طه حسين، في السوربون، أوائل القرن العشرين لدراسة ابن خلدون ووضع أطروحة عنه). ودركهايم، الذي رفض في شبابه ان يسير على خطى آبائه وأجداده ويصبح حاخاماً، توجه باكراً لدراسة العلوم العلمانية، ودرس العلوم الاجتماعية ليخوض بعد ذلك، المعترك الجامعي، أستاذاً ومؤلفاً. وهو درس في باريس وبوردو، وكان كتابه عن «تقسيم العمل» باكورة منشوراته، علماً بأنه نشر من بعده مؤلفات عدة، من أبرزها «قواعد المنهج الاجتماعي» و «الانتحار» و «حظر علاقات المحارم وأصوله» و «علم الاجتماع ومجاله العلمي» و «الأشكال الأساسية للحياة الدينية» و «ألمانيا... فوق الجميع» وهو دراسة ثاقبة حول علاقة الذهنية الألمانية بالحرب.
نشرت بجريدة الحياة عدد 11/02/2009