عدد الرسائل : 46 العمر : 76 التخصص : شاعر وباحث الدولة : سورية تاريخ التسجيل : 12/05/2010
موضوع: المرأة في الغزل الصوفي (5 ـ 1) عبد القادر الأسود 25/5/2010, 10:02 am
تابع .. المرأة في الغزل الصوفي للشاعر: عبد القادر الأسود
الباب الخامس من أخبار العشاق
تميّز العرب من بين الأمم الأخرى بما سمّي بالحبِّ العذري، وهو الحبّ العفيف النظيف الذي لم تكن فيه علاقة جنسيّة بين العاشقين، إنّما اقتصر على العلاقة الروحية والعواطف والمشاعر الإنسانية ، وقد انتهى معظم قصصه بالسقم أو الجنون وبالموت أحياناً ، وذلك لما اتصف به العربي ــ في الغالب ــ من مروءة وعفة ونجدة إلى آخر ما هنالك من مكارم الأخلاق في جاهليّتهم ، يتجلى ذلك في قول عنترة العبسيِّ : ما سمتُ أُنثى نفسَها في موطنٍ حتَّى أوفِّي مهرَهـــــــــا مولاهــــــــــــــــا وأَغُضُّ طَرْفي إنْ بدتْ لي جارَتي حتَّى يواري جـــــــارتي مــأواهــــــــــا (1) ثم جاء الإسلام فأكّد هذه المكارم وتممها كما قال {عليه الصلاةُ والسلام } فيما رواه البيهقي في سننه عن أبي هريرة { رضي الله عنه } أنّه قال ، قال رسول الله{ صلى الله عليه وسلّم }: (( إنّما بُعثتُ لأتمّم مكارمَ الأخلاق )) (2) فهذب العلاقة بين الجنسين ووضع لها حدوداً ونظاماً بحيث يحفظ على المجتمع قيمه ويحافظ على سلامة النسل وصحة النسب لما يترتب على ذلك من حقوق ماديّة وأدبية، ويمتن الروابط الأسرية ، فقضى بذلك على العلاقات غير الشرعية بين الجنسين ، مما أدى إلى تأجج العواطف والتهاب ى المشاعرفيحالات كثيرة ما تيسرت للعاشقين علاقة مشروعة لأسباب اجتماعية واقتصادية في بعض الحيان ، وفيما يأتي بعض من قصص هؤلاء العشاق والمحبّن أورِدُها من مصادرِها في زمان طغت في المادة ، وتراجعت القيم الروحيّة ، وخبت المشاعر الإنسانية ، وأصبح الإنسان أشبه بالآلة يتحرك بدوافع ماديّة وغريزية بحتة ، وكأنّ الآلة التـي يستجدمها أو يعمل عليها قد طبعته بطابعها حتى بدا وكأنّه جزء منها ، أو شقيقٌ توءمٌ لها شبيه بها ، وقد أخذت في كثير من الأحيان دور عقله ناهيك عن أحاسيسه ومشاعره ، حتى بسطاء الناس وأهل الحرف البسيطة ، كالبقالين وبائعي الخضراوات والجزارين والخبّازين تراهم يستعملون الآلة الحاسبة إذا باعك (2) كيلو غرام من الخيار بسعر ليرة واحدة للكيلو غرام ، فما بالك بالحِرَفِ والمِهَنِ العِلْميَّةِ الأكثر تَطوّراً ؟ وهو أمرٌ في غاية الخطورةِ ، إذ من المعروف بأنّ العضو الذي لا يعمل يَضعُفُ ويَضمُر ، وكلُّ توجُّهاتِ الحضارة الماديّةِ الغربيّة الحديثة تُركِّزُ على مَكننةِ الإنسانِ وتحويله إلى آلة تستجيب للأوامر وتمشي وتتحرك بموجب نظام معدٍّ لها كآلة الحاسوب، وتهمل مشاعره وإنسانيّته ، من ذلك التركيزُ على رياضة الجسم لاسيما الكرة التي أمسك بها يوماً {هرتزل} زعيم الصهيونيّة العالمية ،وقال: لأشغلنّ بك العالم ، ووجه أجهزة الإعلام في العالم ، والتي يسيطر الصهاينة على معظمها ، إلى الاهتمام بالكرة وتوجيه الأنظار إليها ، فاستقطبت أجيال الشباب في طول الكرة الأرضيّة وعرضها ، واستحوذت على عقولهم واهتماماتهم وتفكيرهم وشغلتهم عمّا يحوكه الصهاينة ويدبّرونه لحكم العالم والسيطرة على مقدَّراته ، وكان ذلك على حساب رياضات العقل والقلب والروح والمشاعر والأحاسيس ، حتى الفن الموسيقيّ الذي يعتبر من رياضات الأحاسيس وتذوق الجمال المعنويّ لم يسلم من تخريبهم وعبثهم فقد أصبحت موسيقا هذا العصر صاخبة أساسها الإيقاعات التـي تحرك جسم المستمع فقط دون عقله وأحاسيسه ، فقد أصبحت كلمات الأغاني فارغة من كلّ مضامين الجمال ومعانيه التي تنمي الذوق الجمالي . والحبُّ المقدّس أصبح شهوة بهيميّة وحسبْ بعيداً عن المشاعر السامية التي عَرَفها أسلافنا وتذوّقوا كؤسها وهاموا بنشوتها فسمت بهم إلى عولم الطهر والعفة والكمال .
لذلك حرصت على إيراد طائفة من قصص الحب المفعمة بالمشاعر الإنسانيّة والعاطفة الجيّاشة لمناسبتها لموضوع هذا الكتاب ، من جهة ، ولعلّي أذكّر الإنسانَ المعاصر بهذه الرقائق واللطائف التـي تغذي المشاعر وتوقظ الأحاسيس الإنسانية . وتقوي القلب والروح ، وإليك بعض هذه القصص : قال المُفَضَّلُ الضَبّـي : عَشق كاملُ بنُ الوَضينِ أسماءَ بنتَ عبدِ اللهِ بنِ هشامٍ ابنة عمّه ، فلم يزل به العشق حتى صار كالشيء البالي ، فشكا أبوه إلى أبيها ما نزل به ليزوجها منه ، ولمّا علم كامل بن الوضين ، قال : وإذاً تسمع أسماء كلامي ؟ قيل : نعم ، فشهق شهقةً وقضي مكانه ، فقيل لها : مات بغُصّةِ شَجَنِهِ قالت : والله لأموتنَّ بمثلها ، ولقد كنت على زيارته قادرة ، فمنعنـي منها قُبْحُ ذِكرِ الرِيبةِ ، ومرضتْ ، فلمّا اشتدّ بها المرض قالت لأَشْفقِ نسائها عليها : صوِّري لي مثالَه ؛ فإنّي أُحبُّ أنْ أزورَه قبْلَ موتي ، ففعلت ، فلمّا وصلتِ الصُورَةُ اعْتَنَقتْها وشَهقتْ فقَضَتْ ، فطَلَبَ أبو الفتى إلى أبيها أنْ يدفنَها بالقرب من قبرِ ابنِه ففعل ، وكتب على قبريْهِما : بنفسي هما لم يمتّعا بهواهمــــــــــا على الدهر حتى غيّبا في المقابرِ أقاما على غير التزاور برهــــــةً فلمّا أصيبا قُرّبا بالتــــــــــــــــــزاورِ فيا حسن قبر زار قبراً يحبّـــــــــــــه ويا زورة جاءت بريب المقــادرِ (3) كان ابنُ عباسٍ يوماً جالساً بفِناء الكعبةِ إذ وضع بين يديه شخصٌ قد حملوه إلى الكعبة يستشفعون له فكشف عنه ، فأنشد الفتى السقيم : بِنا مِنْ جَوى الأحزانِ والحُبِّ لوعةٌ تكـــاد لهـــــــا نفسُ الشفيق تذوبُ ولكنّ ما أبقى حُشاشــــــــــــــةَ ما ترى على ما ترى عودٌ هنـــــاك صَليبُ فرأى ابنُ عباس رسماً عافياً وحساً خافياً وجسماً بالياً فمكث ابن عبّاس أربعين يوماً لا يسأل اللهَ بعد صلاته إلاّ المعافاةَ من العشق . وأخرج ابنُ عساكر في الأمالي أنّ هذا المذكور عُذري. وقال السُيوطي في شرح الشواهد بأنَّ اسمَه عُروةُ بنُ قيس وأنّه وَلُِعَ بجاريةٍ من العرب فزوَّجوهُ بها بشفاعةِ الحسينِ بنِ عليٍّ { رضي الله عنهما } فأقام معها مدّة وكانت أمُّه تُقسم عليه أنْ يفارقها ، وهو يقول لها أخاف تلافَ نفسي فلمَ ترضَ فلمّا كان يومُ حرٍّ شديدٍ وقَفَتْ حافيةً على الرمل وأقسمت لا تزول أو يفارقَ عُروة الجاريةَ ، ففارقها رفقاً بأمِّه فجعل يزدادُ به الوجدُ حتى امتنع من الطعام والشراب ، وعاود أهلَها فأبوا عليه ، فأقام أيّاماً وحُمِل ــ كما ذُكرــ إلى الكعبة فلم يُغْنِ عنه ، فلمّا عادوا به توفي في الطريق . (4) كانت هذه قصة عشق بين شاب وابنةِ عمّه انتهت بموت العاشقين،أما القصة الثانية فهي قصة امرأة عشقت الذات الإلهيّة وانتهى بهــــــا العشق إلى الموت أيضاً . يقول ذو النون المصري: بينما أنا أسير على جانب البحر في الليل إذا أنا بجارية عليها أطمارُ شَعرٍ وهي ناحلةٌ ذابلةٌ فدنوتُ منها لسماعِ ما تقول وإذا هي متصلةُ الأحزانِ بالأشجان وقد عَصَفت الرياحُ واضطربت الأمواج وظهرتِ الحيتان ، فصَرَخت وسقطت على الأرض ثم أفاقت وهي تقول سيدي لك تقرّب المتقرّبون في الخلوات ، ولِعَظَمَتِك سبّحت الحيتان في البحار الزاخرات ، ولجلالِ قُدْسِكَ تصافَقَتْ الأمواجُ المتلاطمات، أنت الذي سَجَدَ لك سوادُ الليلِ وضوءُ النهار والفَلَكُ الدَوّارُ والبحرُ الزَخّارُ والقمرُ النَوّارُ والنجمُ الزهّارُ وكلُّ شيءٍ عندك بمقدار لأنّك العَليُّ القهّار وأنشدت: أحبُّـــــك حبّــــــــين حُبَّ الوداد وحُبّــــــــــــــــــــــــاً لأنك أهل لذاك فأمّـــــــــــــا الذي هو حُبُّ الهـوى فحب شغلت به عن سواك وأما الذي أنت أهـــــلٌ لــــــــــه فكشفك للحجب حــــتى أراك فما الحمـــــــــــــــــد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمــــــــــد في ذا وذاك {هذه الأبيات لرابعة العدوية ــ كما هو معروف ــ وقد سبق إن ورددت في هذا الكتاب } . ثم شهقت شهقةً فارقت الدنيا فوَقَفتُ متعجّباً وإذا بنسوةٍ على أحسن ما يكون من الحالات قد أقبلن فحملْنَها ثم غِبنَ وأقبلنَ بها قد جُهّزتْ فقدّمْنَنـي للصلاة وهنَّ ورائي فلمّا فرَغتُ مَضَينَ بها. ( 5)
وهذه قصة ثالثة في الحب الإلهي تنتهي بموت العاشق أيضاً ، فقد جاء في كتاب تزيين الأسواق في أخبار العشّاق ما يأتي: أخبرنا أبو الطيب ــ وكان صوفيّاً من أهل سُرَّ مَنْ رأى ، مدينةٌ بالعراق ــ قال: حضرْنا يوماً مجلساً ومعنا رجل صوفيٌّ يُقال له أبو الفتح فقرأ قارئ : ((أوَ لم نُعمرْكم ما يتذكّر فيه مَن تذكّر )) فقال الرجل : بلى وخرَّ مغشياً عليه فلم يفق إلى أن ذهب النهار ، ثم مضى فبلغنـي بعد أيام أنه حضر بالكرخ مجلساً فأنْشدت فيه جاريةٌ الأبيات المنسوبة إلى عبد الصمد المغربي الإشبيلي المعروف : يا بديعَ الدَلِّ والغَنَـــــــــــــــجِ لك سلطــــــانٌ على المُهَـــــــجِ إنَّ بيتـــــــاً أنتَ ساكنُـه غـيرُ محتــــــــــــاجٍ إلى السُـــــرُجِ وجهُكَ المعشوقُ حُجَّتُنـــــا يـــوم يأتي النــــــــاسُ بالحُجَـــجِ فاعتراه اضطراب شديد وأقبل يقول للصَبيّة كيف قلتِ : فلمّا بلغت البيتَ الأخير خرّ ميتاً .وأخرج في الأمالي عن عبد المؤمن القصة إلاّ أَنَّ البيتَ الأخير . ((وجهك المأمول حجتنا)). قلت ولعلّ الذي مات من سماعه الرجل هو هذا لأنّ العارفين إذا سمعوا ما يدل على صاحب البقاء كان أكثر أخذاً من نفوسهم ولا شك في أنّ المأمول أبلغ. ( 6 ) وفيما يأتي قصة أخرى عن الشاعر العاشق المعروف بجميل بثينة وهي من القصص الشهيرة في الأدب العربي : فعن ابن عيّاش قال : لقيتُ عجوزاً من بنـي عُذرة فقلت لها: هل تروين شيئاً عن جميلٍ ومحبوبتِه قالت : نعم كنت يوماً وبثينة قد انفردت تبرُم غزْلاً ، والعرب قد اعتزلت الطريق خوف المارة إلى الشام وإذا برجل قد أقبل إلينا فاستثبتناه فإذا هو جميل ، فقلت له: قد عرّضتَنا ونفسَك شرّاً فمن أين جئت ؟ قال: من هذه الهضبة ولي بها ثلاثةً أنتظر الفُرصة لأُحدِثَ بكم عهداً، فإني ذاهب إلى مصر فحدّثنا ساعة وهو لا يتماسك فجئتُه بقدح فيه تمر فنال منه يسيراً ثم ودّع ومضى فلم نَلبثْ أنْ جاء أهلُ الحيِّ ومما قال: أرى كل معشوقين غيري وغيرها يلدان في الدنيـــــــــــــــا ويغتبطــان وأمشي وتمشي في البلاد كأننـــــــا أسيران للأعـداء مرتَهَنــــــــــــــان أصلي فأبكي في الصلاة لذكرهــــا ليَ الويلُ ممــــا يكتب الملكان ضَمِنتُ لها أن لا أهيم بغيرهـا وقد وثقت منـي بغـير ضمــــــان ألا يا عباد اللّه قومــــــــــوا لتسمعوا خصومــــــةَ معشوقين يختصمــــــــــــان وفي كل عـــام يستجدّان مـــــــــرة عتـــــــــــــاباً وهّجْراً ثم يصطلحـان يعيشان في الدنيا غريبين أينمــــا أقامـــــــا وفي الأعــــــــوام يلتقيــان وعن سهل الساعدي قال: قال لي رجل هل تعود جميلاً فإنه مريض ، فدخلنا عليه فإذا هو يجود بنفسه، فنظر إليّ وقال ما تقول في رجل لم يزن قط ولم يشرب خمراً ولم يسفك دماً ويشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول الله منذ خمسين سنة. قلت مَن هذا فإني أظنُّه ناجٍ ، قال: أنا ، قلت: عجيب منك تُشبَّبُ ببثينةَ هذه المدة وأنت كذلك ؟. قال: أنا في آخر يوم من الدنيا لأنالتنـي شفاعة محمد إن كنت وضعت يدي عليها بريبَة ،وأكثر ما كان منـي أن أُسندَ يدَها إلى فؤادي أستريحُ ساعةً ثم أُغميَ عليه فلمّا أفاق أنشد : صـرح النَعْيُّ وما كَني بجميلِ وثوى بمصرَ ثُواءَ غيرِ قَفُـــــــــولِ قومي بثينـــــــــةُ فاندُبي بعويلِ وابكي خليلَك دون كلِّ خليلِ ولما حضرته الوفاة قال : من ينعاني إلى بثينة ؟ قال رجل : أنا فأعطاه حُلَّتَه فراح حتى جاء الحيَّ فأنشد : بكر النعي وما كني بجميـــل وثوى بمصر ثواء غير قفول بكر النعي بفارس ذي همّة بطلٍ إذا حُــمّ اللقــــاءُ مُذيلِ فسمعته بثينة فخرجت مكشوفة تقول: وإنّ سلوّي عن جميـــــلَ لساعــــــــــــــةٍ من الدهر لا حانت ولا حان حينُها سواءٌ علينـــــــــــــا يا جميـــــلَ بنَ مَعْمـرٍ إذا مِتَّ بأســـــاءُ الحيـــــاة ولينُهــــــــا ثم قالت للناعي: يا هذا إن كنت صادقاً فقد قتلتنـي ، وإن كنت كاذباً فقد فضحتنـي ، فقلت: لها والله إني لصادق وأخرجت الحلّةَ ، فلمّا رأتها صرختْ وصكّت وجهَها وأقبلَ النساءُ يبكينَ معها حتى خرّت مغشيّاً عليها، ثم أفاقت وأنشدت( وإن سلوي )البيتين فلم أسمع منها غيرَهما حتى قضت. (7)
وهذه قصة حبٍّ أخرى من قَصص الحب التي تناقلتها كتب الأدب العربي، وهي من القصص المشهورة التي تداولها الناس في مجالسهم قروناً طويلة، إذ أحبّ قيس بن ذَريح ويتصل نسبه ببكر بن عبد مَناة عذري من خزاعة ، كان ينزل بظاهر المدينة وهو رضيع الحسين بن علي بن أبي طالب ، وسبب علاقته بلبنى بنت الحباب الكعبية أنّه ذهب في بعض حاجاته فمر ببنـي كعب وقد احتدم الحر فاستسقى الماء من خيمة منهم فبرزت إليه امرأة مديدة القامة بهية الطلعة عذبة الكلام سهلة المنطق فناولته الماء ، فلمّا صدر قالت له: ألا تَبَرّدُ عندنا ؟ وقد تمكنت من فؤاده فقال: نعم ، فمهدت له وِطاءً واستحضرت ما يحتاج إليه وإن أباها جاء.فلما وجده رحّب به ونحرَ له جَزوراً وأقام عندهم بياضَ اليوم ثم انصرف وهو أشغف الناس بها ، فجعل يكتم ذلك إلى أن غلب عليه فنطق فيها بالأشعار وشاع ذلك عنه ، ثم إنّه مرّ بها ثانيةً فنَزل عندهم ، وشكا إليها حين تخاليا ما نزل به من حبّها فوجد عندها أضعاف ما عنده ، فانصرف وقد علم كلُّ واحدٍ ما عند الآخر من حب. ثم مضى إلى أبيه فشكا إليه فقال له دع هذه وتزوج بإحدى بنات عمك ، فغُمَّ منه وجاء إلى أمّه فكان منها ما كان من أبيه فتركهما وجاء إلى الحسين بن علي وأخبره بالقصة فرثى لحاله والتزم له أن يكفيه هذا الشأن. فمضى معه إلى أبي لبنى فسأله في ذلك فأجابه بالطاعة ، وقال يا بن رسول الله لو أرسلتَ لَكُفيتَ، بيد أنّ هذا من أبيه أَليقُ كما هو عند العرب فشكره ومضى إلى أبي قيس فجاء إليه حافياً على حر الرمل ومرغ وجهه على أقدامه ، ومضى مع الحسين حتى زوج قيساً بلبنى . ونقل الجلال السيوطي أنّ الحسين أدّى المهرَ من عنده ، ولمّا تزوَّجها أقام مدّة مديدة على أرفع ما يكون من أحسن الأحوال ومراتب الإقبال ، وفنون المحبّة ، وكان قيس على أبلغ ما يكون من أنواع البر بأمّه فشغله الانهماك مع لبنى عن بعض ذلك ، فحسّنت لأبيه التفريق بينهما ، فقالت له يوماً : لو زوجتَه بمن تحمل لتجيء بولد لكان أبقى لنسبك وأحفظ لبيتك ومالك ، ثم إنهما عرضا على قيس ، ذلك فامتنع امتناعاً يؤذن باستحالة ذلك ، وبقي يمانعهما عشر سنين إلى أن أقسم أبوه أ لا يظلّه سقف أو يطلق قيس لبنى . فكان إذا اشتدّ الهجير يجيئه فيظله بردائه ويصطلي هو الحَرَّ حتى يجيء الفيء فيدخل إلى لبنى فيتعانقا ويتباكيا وهي تقول له لا تفعل فتهلك ، إلى أن طلقها ، فلما أزمعت الرحيل بعد العِدّة جاء فسأل الجارية عن أمرهم فقالت : سل لبنى فأتى إليها فمنعه أهلُها وقالوا غداً ترحل إلى ديارنا فسقط مغشياً عليه، فلما أفاق وأنشد: وإنّي لَمُفْنٍ دمعَ عينـيَ بالبُـــــــــــكا حــــــــــــذارَ الذي قد كان أو هو كائنُ وقالوا غداً أو بعـــــــــــــد ذاك بليلةٍ فراق حبيب لم يَــبِنْ وهو بائنُ وما كنت أخشى أن تكون منيتي بكفيك إلاّ أنّ مـــــــــــا حان حائن وتبعها حين ارتحلت ينظر إليها، فلما غابت رجع يقبل أثر بعيرها ، فَلِيـمَ على ذلك فأنشد: وما أحببت أرضكـــم ولــــــــكن أقبّل إثر مــــن وطىء الترابا لقد لاقيـت من كلفي بلبنى بلاءً ما أُسيـغُ له الشــــــــرابا إذا نادى المنــــادي باسمِ لبنى عَييتُ فلا أُطيقُ لـــــه جـــوابا وأرسلت إليه يوماً أمُّه بناتٍ يَعِبْنَ لبنى عنده ويُلّهينَه بالتعرض إلى وصلِهِنَّ فأنشد: يَقَــــــرُّ لعينـي قربُها ويزيــــدني بها عجباً من كان عندي يعيبها وكم قائل قد قال تُبْ فعصيتُــه وتلك ــ لعمري ــ توبةٌ لا أتوبُهـا ولما اشتدَّ شوقُه وزاد غرامُه أفضى به الحالُ إلى مرضٍ ألزمه الوِسادَ واختلالَ العقلِ واشتغالَ البالِ ، فلام الناسُ أباه على سوءِ فعلِه فجَزِعَ وندم وجعل يتلطّف به ، فأرسل له طبيباً وقَيْناتٍ يسألون عن حالِه ويلهّونه فلما أطالوا عليه أنشد: عنــد قيس من حبِّ لبنى ولبنى داء قيس والحب صعب شديد فإذا عادني العوائــــــد يومــــــــــــــــــــاً قالت العينُ لا أرى مَن أُريـــــــد ليـــــت لبنى تعودني ثم أقضي أنهـــــــــــــــــــا لا تعود فيمن يعـــــــود ويح قيس لقد تضمن منهــــــــــــــــا داءَ خبْل فالقلبُ منه عمـــيــــــــد فقال له الطبيب مذ كم هذه العلة بك ومذ كم وجدت بهذه المرأة ما وجدت فقال: تعلق روحي روحها قبل خلقنـــا وليس إذا متنـــــا بمنفصمِ العَقْـدِ فزاد كمــــــــــــا زدنا وأصبح نامي وليس إذا متنا بمنصرم المهــد ولكنّــــــــه باقٍ على كل حـادثٍ وزائرتي في ظلمةِ القبرِ واللحـــد فقال إنما يسليك عنها تَذَكُّرُ ما فيها من المساوئ والمعايب ، وما تَعافُه النفس فقال: إذا عِبْتُها شبهتُها البدرَ طالعــــــــــــــــــــــــــــــــاً وحسبُـــك من عيبٍ لهــــــا شَبَـــهُ البــــــدر لقد فضُلت لبنى على الناس مثل مــــــــا على ألفِ شهرٍ فضُلت ليلةُ القـــــدر إذا ما شئتَ شبراً من الأرضِ أَرجفتْ من البَهْرِ حتى ما تَزيــــــــــــــــد على شِــبر لها كفل يرتج منهــــــــــــــــــــــا إذا مشت ومـــتنٌ كغُصْنِ البـــــــــان منضمِـــــــــر الخصر وإنّ أباه دخل وهو يخاطب الطبيب بذلك فجعل يؤنّبُه ويلومه ، فلمّا لم يُفِدْ ذلك عرض عليه الزواج فأنشد: لقد خفتُ أن لا تقنعَ النفسُ بعدها بشيء من الدنيـــا وإن كان مُقنِعـــــــــــا وأزجرُ عنها النفسَ إنْ حِيلَ دونَهـــا وتأبى إليها النفسُ إلاّ تَطَلُّعــــــــــــــــــا فلما آيسَ منه استشار قومه في دائه فاتفقت آراؤهم على أن يأمروه بتصفّح أحياءِ العرب فلعلّ أنْ تقع عينُه على امرأةٍ تستميل عقله فاقسَموا عليه أنْ يفعل ففعل ، وإنّه اتّفق أنْ نَزل بحيٍّ من فَزارةَ فرأى جاريةً قد حَسَرتْ عن وجهِها بُرقُعَ خَزٍّ وهي كالبدر حُسْناً وبهجةً فسأل عن اسمِها فقالت: لبنى فسقط مغشيًّاً عليه فارتاعتْ منه ونَضَحَتْ وجهَهُ بالماءِ وقالت: إن لم تكن قيساً فمجنون . (
أمّا قصّةُ مجنون بنـي عامر قيس بن الملوّح وهيامه بابنة عمه ليلى العامرية، فقد كانت الأشهر في قصص العشّاق عند العرب حتى غدت مضرب الأمثال وشعره فيها أعذب الشعر ، وكان وما زال قيس هذا علماً على العشاق ، فإذا ما أطلقت لفظة {المجنون}ولم تسمّه فهم أنك تعنيه دون غيره ممن ذهب العشق بلبّهم ،وقد كثرت أحداث هذه القصة ، حتى أصبحت ملحمةً من الملاحم واختلط الصحيح فيها بالخرافي ، والواقعيُّ بالملفّق والمختلق، كقصة جُحا في البله ، وقصّة عنترة في البطولة ، وأشعب في حبّ الطعام وتصيد موائده وولائمه ... وإليك ــ عزيز القارئ ــ بعضَ هذه الأحداث لأنّ جميعها يحتاج إلى سفر بل إلى أسفار ، ومن ذلك ما جاء في تسريح الناظر عن الأمالي قال: اجتمع إلى المجنون عِزْوةٌ من قومه ممن كان ينادمُه حال صِحّتِه وقد ذهبوا به حين بني الثقفيُّ بليلى فعزموا على أن يسافروا به متنزّهين في أحياء العرب ليذهب ما به فساروا وهو معهم تُعاودُه الصِحّةُ دوراً والجنون دوراً ، وهم يَرِدون كلَّ متنزّهٍ ويعرضون عليه من بنات العرب كلَّ مَن أُجمِعَ على حُسْنِها ، وأنهم غفلوا عنه ليلةً ثمّ افتقدوه فرأوْه قد ذهب ، فركب ابنُ عمٍّ له في طلبه فرآه عنده مَشْرَعَةٍ وبين يديه ظبيةٌ لا حَراكَ بِه وهو يمسحُ عنها الترابَ ويُقبّلُها ويَبكي وزاد في نزهةِ المشتاق أنّه كان ينشد: أيا شِبهَ ليلى لا تخافين إننـي لكِ اليومَ مِن وحْشِيَّةٍ لَصديقُ ودخلوا عليه فحادثوه في السلو فزاد في الهيام ولمّا عُوفيَ جعلَ يُعاود موضعَها ويتمرّغ في التراب ويبكي إلى الليلِ وعَزَمَ على التَوَحُّشِ والخُروج فراجعه ابنُ عمٍّ له في ذلك فكان يعزم عليه أنْ لا يفعل ويُشاغِلُهُ إلى أنْ بلغه أنَّ ليلى دخلت إلى جارةٍ لها فنَضَتْ أثوابَها واغتسلتْ ونظرت إلى نفسه وقالت ويحَ ابنِ الملوّحِ لقد عَلِقَ بي عظيماً على غيرِ استحقاقٍ فأُنْشِدُكِ اللهَ أَصادقٌ هو في وصْفي أم كاذب ؟ فقالت: بل صادق ، ثم خَرَجت من عندها وعادت لأخذِ سواكٍ نَسِيتْه ، فلمّا صار في يدِها قالت: سقى الله من أعطانيه فقالت لها جارتها: ومن أعطاكيه ؟ قالت: قيسٌ ، فخرج هائماً وأنشد: جرى السيلُ فاستبكاني السيل إذ جرى وفاضت له من مقلتـيَّ غَـــــــــــــــــــروبُ وما ذاك إلا حين أيقنتُ أنّــــــــــــــــــــــــه يكون بوادٍ أنتِ منـــــــــــــــــــــه قريبُ يكون أُجاجـــــــــــــــــــــــــاً دونَكم فــإذا انتهى إليكم تَلَقّى طيبَكـــــــــــــــــــــــــــــم فيطيبُ فيا ساكنـي أكنافَ نخلــــــــــــــــــــــــة كلُّــــــكم إلى القلب من أجلِ الحبيب حبيب أظل غريب الدار في أرض عــــــــــــــامر إلى كلِّ مهجـــور هنــــــــــــــــــــاك غريبُ وإنّ الكثيبَ الفَــــــردَ من أيمنِ الحِمى إليّ ، وإنْ لم آتِـــــهِ ، لحبيـــــــــــــــــــــــبُ ولا خيرَ في الدنيـــــــــــــا إذا أنتَ لم تَزُرْ حبيبـــــــــــــــــــاً ولم يَطْرُقْ إليك حبيبُ ثم انساب منهم وكانت هذه سياحتُه الكاملة فجعل يقتاتُ بعشبِ البرِّ حتى طالت أظفارُه وغطّاه شعرُه فألِفَتْهُ الوحوشُ فكان يَرِدُ الماءَ معها ، ثم يهيم على وجهه حتى يقع بالشام فيرى أقواماً وأرضاً يُنكِرُها فيقول: أين جبلُ توباد من بني عامر ؟ وهو جبلٌ كان يرعى هو وليلى عنده الغنم، فيقولون له: أينَ أنتَ من توبادَ ،ويعرضون عليه الثيابَ والطعامَ فيأبى ويقولُ: دِلّوني عليه ، فيرحمونه ويقولون له اتّبع نجمَ كذا يوصِلُك إليه فيمضي حتى يقع باليمن فيكون له مثلُ ذلك إلى أن يظفرَ أحياناً بالجبل فيُنشِدُ حين ينظره : وأَجْهَشْتُ للتوباد حـين رأيتُـــــه وكبّر للرحمـــــــــــــــــــــن حـين رآني وأَذريتُ دمعَ العين لما عرفتـــــه ونادى بأعلى صوته فــدعـــــــــــــاني فقلتُ : له قد كان حولَك جيرة وعهدي بذاك الصرم منذ زمـــان وقلت له :أين الذين عهدتُهم بقربك في حفظٍ وطيبِ أمـان ؟ فقال مضوا واستودعوني ديارهـــــــم ومن ذا الذي يبقى على الحِدثان وإني لأبكي اليومَ من حَذَري غَـداً فراقَـكَ والحيّـــــــان مؤتَلِفــــــــــــان سِجالاً وتَهتـــــــاناً ووبْلاً وديمــــــــــــــة وسَحّاً وتِسجــــــالاً ، وتنهَمِـــــــــــــلان وعن فتى من قيس قال: لمّا أُخِذَ المجنونُ إلى مَكَّةَ للاستشفاء ، مررت يوماً وإذا أنا بجماعةٍ قد تعلّقوا بشخصٍ متغيّرِ اللّونِ ناحلِ البَدَنِ وقد همَّ أن يُلقي نفسَه من جبلٍ ، فسألتُ عنه فإذا هو المجنون خرج ليتنسَّم صَبا نجدٍ فقلت: علامَ تحبِسونه ؟ قالوا : نخاف أن يجنـي على نفسِه ، ولو تقدَّمتَ إليه فأخبرتَه أنّك من نجدٍ أَسكنتَ روعَه ، ففعلتُ فجعل يسألنـي عن موضع موضع منها ويبكي أحرَّ بكاءٍ ثم أنشد : ذكّرتَ ليــــــــــــــلى والسنين الخواليــــــــــــــا وأيامَ لا أَعـــــــــدى على الدهر عــــــــــــاديا ويومٍ كظِـــــــــلِّ الرّمــــــــحِ قصَّرتُ ظِلَّـــــــــــه بليلى فلهّــــــاني وما كنتُ لاهيــــــــــــــــا فيا { ليلَ } كم من حاجـــــــــــةٍ لي مهمّـــــــــــةٍ إذا جئتـــــــــــــكم بالليل لم أدرِ ماهيــــــــــــــا وقد يجمــــــــــــــــــع اللّه الشتيتين بعدمــــــــــــــــا يظنــــــــــــــان كلَّ الظنِّ أنْ لا تلاقيـــــــــــــــــا وعهـــــــــــــــدي بليلى وهي ذات مؤصَّــــــــدٍ تَـــــــــــرُدُّ علينـــــــــــــــا بالعشيِّ المواشيــــــــا فشبَّ بنو ليلى وشَبَّ بنو ابنِهـــــــــــــا وأعلاقُ ليلى في فؤادي كمـــــــــــا هيـــــــــــــــا إذا ما جلسنـــــــا مجلســــــــــــــــاً نستلـــــــــــــذُّه تواشَــــــــــوْا بنـــــــــا حتى أَمَلَّ مكانيــــــــــــــــا خليـــــــــــــلي لا واللّه لا أمـــــــلك الـــــــذي قضى اللّه في ليلى ولا ما قضى لِيــــــــــــــــــــــا قضاهــــــــــــــــــا لغيري وابتلاني بحبهـــــــــــــــا فهـــــــــــلا بشيء غير ليلى ابتلانيـــــــــــــــــا وخَبّرتُمــــــــــــــاني أن تَيْمــــــــــــــــــــــاءَ منزلٌ لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيــــــا فهذي شهور الصيف عنا قد انقضت فمــــــــــــــــا للنوى ترمي بليلى المراميـــــا فلـــو أنَّ واشٍ باليَـمَــــــــــــــــامَـــــــــــــــــــةِ دارُهُ وداري بأعلى { حَضْرَمَوْتَ } أتانيـــــــــــــــا ومــــــــــاذا لهم ــ لا أحسن اللّه حالَهــــــــــــم ــ مِنَ الحَـــــــــظِّ في تَصريــــمِ ليلى حِبالِيـــــا؟ فيــــــا رَبِّ سَــــوَّ الحُبَّ بينـي وبينَهــــــــــا يكون كَفـــــــــــــــــــــــــــافاً لا عليّ ولا لِيـــــــــــــــا فمـــــــا طلـــــع النجــــمُ الذي يُهتَـــــدى بِــــــهِ ولا الصبـــــحُ إلاّ هيّجــــــا ذِكْرَهــــــــــا لِيـــــــــــا ولا سِرْتُ مِيــــــــلاً مِنْ { دمشـــــقَ } ولا بدا سُهيــــلٌ لأهــــــــلِ { الشامِ } إلاّ بدا لِيــــــا ولا سُمِّيَتْ عندي لهــــــــا مِنْ سَمِيَّـــــــــــــــةٍ مِن النــــــــــــاسِ إلاّ بَلَّ دمعي رِدائيـــــــــــــــا ولا هَبَّتِ الريحُ الجنـــــــــــوبُ لأرضِهـــــــا من الليـــــــلِ إلاّ بِتُّ للريح جانيـــــــــــا فإن تَمنعـــــــوا ليلى وتَحمُـــــــوا بلادهــــــــــــــــــا عليَّ فلن تَحـمُـــــــــــــوا عليَّ القَوافيـــــــــــــــا فاشهد عنــــــد اللّه إني أحبُّهــــــــــــــــا فهذا لها عندي فمـــــــــــا عندَها لِيـــــــا؟ قضى اللّه بالمعروف منهــــــــا لغيرنا وبالشوقِ مِنّـي والغــرامِ قضى لِيـــــــا وإن الذي أمّلتُ يا {أمَّ مالك } أَشـــــابَ فــؤاديَ واستهـــــــان فـؤاديا أعُـــــــدُّ الليالي ليلةً بعــــــــــــــــــدَ ليـلـةٍ وقد عشت دهراً لا أعُدُّ اللياليــــــا وأخـــــــرج من بين البيوت لعلنـي أحدث عنك النفس بالليل خاليـــا أراني إذا صلّيتُ يَمَّمْـتُ نحوهـا بوجهي وإن كان المصلي ورائيــــــــــــا وما بي إشــراكٌ ولكنّ حبّهـــــــــــــــــا وعِظَمَ الجوى أعيى الطبيبَ الُمداويا أُحِبُّ من الأسمــاء ما وافق اسمَها وأَشْبَهَـــــــــــهَ أو كان منه مُدانيـــــــــــــــا وإنّي لَأَسْتَحْييــكِ أنْ تَعْرِضَ الُمـــنى بوصلِك أَوْ أنْ تَعْرِضي في المُنى لِيــا إذا ما استطال الدهر يا{أمَّ مالك} فشأنُ المنـــايا القاضيــــــــــــات وشأنيا وإنّي لأَسْتغشي ومــــــــا بي نَعْسَـــــــــةٌ لعلّ خيــــــالاً منك يلقي خياليــــــــــــا هي السحر إلاّ أنّ للسحر رُقْيــــــــــةٌ وإنّيَ لا أَلْقي لها ــ الدهرَ ــ راقيـــــــــا ألا أيّها الركبُ اليَمــــانون عَرِّجوا علينــــــــا فقد أمسى هوانا يمانيــــــــــــا ألا يا حَمامَيْ بطنِ {نعمانَ} * هجتُمـــا عليّ الهوى لمـــّـــا تغنَّيْتُمـــــا لِيــــــــــــــا وأبكيْتُمـــــــاني وسْطَ صحبـي ولم أكنْ أُبالي دموعَ العين لو كنتُ خاليـــــــا ويا أيهــــــــا القُمْريَّتـــــــــان تجــــــــــاذبا بلَحْنَيْــكُمــــــا ثـم اسْجِعــــــــا علانيـــــــــا فإنْ أنتمــــا استطرَبْتُمــــــا أو أردتُمـــــــا لَحاقاً بأطـــــلال الغَضى فاتْبَعانيــــــــــــــا خليليّ إنْ ضَنُّوا بليلى فقـــــــــــــرِّبا إلى النعشَ والأكفانَ واستغفِرا لِيـــــــا * نعمان اسم وادٍ في ديار بني عامر (9)
تلك كانت أشهر قصص الحب في الأدب العربي وأكثرها تأثيراً وجاذبيّةً ، وهذه قصة أخرى من قصص الحب التي سارت بها الركبان وتناقلتها الأجيال عبر التاريخ ، قصّةُ عُروة وعفراء ـــ والعفراء من النساء لغةً : هي البيضاءُ خالصة البياض ــ فقد جاء في تسريح النواظر عن سبب عشقِه لها، هو أن أباه توفي ولعروة من العمر أربع سنين وكفله أبو عفراء ، فترعرعا جميعاً فكان يألفُها وتألفُه . فلمّا بلغ عروة الحُلُم ، سأل عمَّه تزويجه منها فوعده ذلك ثم أخرجه إلى الشام بِعِيرٍ له . وجاء ابنُ أخِ له يقال له أُثالة بن سعيد بن مالك يريد الحاج ، فنزل بعمِّه هصر {أبو عفراء }فبينما هو جالس يوماً تجاه البيت إذ خرجت عفراء حاسرةً عن وجهها ومعصميْها تحمل أدواة سمن وعليها إزارُ خَزٍّ أخضر . فلما رآها وقعت من قلبه بمكانةٍ عظيمةٍ فخطبَها من عمِّه فزوجَه بها. ثم إنّ عُروة أقبل مع العِيرِ وقد حمل أُثالةُ عفراءَ على جملٍ أحمر فعَرَفها من بعيد، وأخبر أصحابه ، فلمّا التقيا وعَرَفَ الأمرَ بُهِتَ لا يحرّر جواباً حتى افترق القوم فأنشد: وإني لتعروني لذكراك رِعْـــــــــــــدةٌ لهــــــا بين جلدي والعظام دبيب فمــــا هو إلاّ أنْ رآهــــــا فجــــــــــــــــأةً فأُبْهِتَ حتّى مــــــــا يكادُ يجيب فقلت لعَرّاف اليمــامــةِ داوِني فإنـّــــــــــك إنْ أبرأْتَنـي لطبيب فمــــــا بيَ من حُمّى ولا مَسِّ جِنّــــةٍ ولكنّ عمّي الحمــــــــــــيريَّ كَــــــذوب عشيّةَ لا عفــراء منك بعيـــــــــــــــدةٌ فتسلو ولا عفــــــــراء منك قريب بنا من جوى الأحزان والبعدِ لوعةٌ تكــــــــــــاد له نفسُ الشفيق تــــــــذوب ولكنّمـــــــا أبقى حُشاشـــــــــــــةَ مِقْوَلٍ على ما به عودٌ هنـــــــــــاك صليب وما عجبـي موتُ المحبّـين في الهوى ولكنّ بقـــــــــــــــاء العاشقين عجيب وقيل إنه لم ينشد في ذلك الموقف سوى البيتين الأولين ، وأما قوله : فقلت لعراف اليمامة ... إلى قوله وما عفراء منك قريب . فإنّه أنشدَه حين أُتيَ به إلى الطبيب ، وسببُ ذلك أنّه حين وصل الحيّ أخذه الهذَيان والقلقُ وأقام أياماً لا يتناول قوتاً حتى شَفّت عظامُه ولم يخبِرْ بسرِّه أحداً ، وأنّه حُمِلَ ليلةً إلى فضاء ليتنزّه به ، فسمِع رجلاً يقول لوالدِه على أي ناقةٍ حملتَ الشعب، يعنـي قُرَب الماء ، فقال على العفراء ، فأُغْميَ عليه ساعة ثم قام مخبولاً وكان باليمامة عَرّافٌ يعنـي كاهناً له قرين من الجِنّ يُعَرِّفُه الأخبارَ ودواءَ بعضِ الأدواء ، فحملوه إليه فلما رآه أخذ يعالجه بأنواع العلاج والرُقى والصب عليه وأصل ذلك أن العرب كانت إذا تخيلت بشخص سحراً جعلت على رأسه طبقاً فيه ماء ثم أذابت الرصاص وسكبته في ذلك الماء ودفنته في فضاء من الأرض فيزول عن الشخص ما به ، وإنّ الكاهن فعل بعروة ذلك مراراً فلما يُنجع ، أخبرهم أن ما به ليس إلاّ من العشق . وقيل أنشده حين حُمِل إلى ابن عباس { رضي الله عنهما } ليدعو له بمكة ولما آيس من الشفاء تمرَّض بين أهله زماناً حتى شاع انتحالُه في العرب وأصبح مثلاً . وإنّ ابن أبي عتيق مر به فرأى أمّه تلاطفُ غلاماً كالخيال فسألها عن شأنه ، فقالت: هو عُروة فسألها نضوَ الغطاء عنه ، فلمّا شاهده عجب من حاله ثم استنشده فأنشد جعلت لعراف اليمامة ... ، الأبيات ، ولمّا علم الضجر من أهله ، قال لهم احتمِلوني إلى البلقاء فإني أرجو الشفاء . فلما حلَّ بها وجعل يسارق عفراءَ النظر في مَظانِّ مرورِها ، عاودتْه الصحة فأقام كذلك إلى أن لقيَه شخصٌ من عُذْرةَ فسلم عليه . فلمّا أمسى دخل على زوج عفراء فقال له متى قدم هذا الكلبُ عليكم فقد فضحَكم بكثْرة ما يتشبّب بكم ، فقال: مَن ؟ قال عروة : قال أنت أحقُّ بما وصفتَه به ، والله ما علمتُ بقدومِه ، وكان زوجُ عفراءَ موصوفاً بالسيادة ومحاسن الأخلاق في قومه . فلمّا أصبح جعل يتصفَّح الأمكنةَ حتى لقي عُروة فعاتبه وأقسم بالمحرمات أنّه لا ينزل إلاّ عندَه فوعدَه ذلك ، فذهب مطمئناً وإنَّ عُروة عزم أنْ لا يَبيتَ الليلَ في هذا المكان ، وقد علم به ، فخرج فعاوده المرض فتوفي بوادي القُرى، دون منازل قومه . قال ابنُ العاص استعملنـي عمر {رضي الله عنه} في جباية صدقات العذريين ، فبينما أنا يوماً بإزاء بيت إذ نظرت امرأة عند كَسْرِ البيت وإلى جانبها شخص لم تَبْقَ إلاّ رسومُه ، فجلستُ أنظر إليه ، فتموّج ساعةً ثم خفق خفقةً وفارق الحياة ، فقلت لها: مَن الرجل ؟ قالت: عُروة . فقلت: كأنّه قضى؟ فقالت : نعم ، ولمّا بلغ عفراءَ وفاتَه قالت لزوجها قد تعلم ما بينك وبينـي وبين الرجل من الرَحِم ، وما عندَه من الوجد ، وإنّ ذلك على الحَسَنِ الجميل ، فهل تأذن لي أن أخرج إلى قبره فأندبه فقد بلغنـي أنّه قضي ، قال ذلك إليك فخرجت حتى أتت قبرَه فتمرّغت عليه وبكت طويلاً ثم أنشدت : ألا أيُّها الركبُ المحِثّون ويحَكم بحقٍّ نعيتـم عُـــروةَ بنَ حِزام فإنْ كان حقاً ما تقولون فاعلمـــــــوا بأنْ قــد نعيتم بدرَ كل ظــــــلام فلا لقي الفتيـانُ بعدَكَ راحـــــــــةً ولا رَجَعـوا مِن غيبــــةٍ بســـلام ولا وَضَعت أُنْثى تمامـــاً بمثلِــه ولا فَرِحت من بعدِه بغــلام ولا بَلَغْتُـــــم حيثُ وجَّهتـــمْ لـه وغَصصتُم لَـــذّاتِ كلِّ طَعـــام (10) إنّ هذا الموقف منها تطرُّفٌ في الحبِّ غيرُ مستحبٍّ ، أنْ تدعوَ على كلِّ الشباب والأمهات بالتعاسة والشقاء أو بالموت لأنّها فقدت مَن تُحبُّ ، وهو يناقضُ مشاعر الحبِّ النبيلة التي هي سموٌّ وعطاء وتمنّي الخير والسعادة لجميع الناس ، لا سيّما المحبّين منهم ، كما علّمنا دينُنا الحنيف ونبيُّنا الكريم {عليه الصلاةُ والسلام } الذي رواه أبو حمزة أنس بن مالك {رضي الله تعالى عنه} خادمُ رسولِ الله عن النبي {صلى الله عليه وآله وسلم} قال : (( لا يؤمن أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه )) . رواه البخاري ومسلم (11) وقد تمنّيتُ يوماً أنْ أكون نهراً يفرشُ ضفافَه بالزهور ويمدُّ زنديه ليحتضن العشاق فيسعدهم ، أقول من قصيدة سمّيتُها نهرالأشواق : ليتني ، يا شوقُ ، نهرٌ أخضرٌ ينســــــابُ فجرا ..يبسُطُ الضِفَّــــــــةَ كفّـــاً يفرش الضفّـــــــــــةَ زهرا يبهجُ العُشّــــــــــاقَ حتّى تنقضي الساعاتُ بِشْرا أمّا أبو العلاء المعرّي فإنّه يقول : فـلا هطلت عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظمُ البلادا (12) أمّا هذه فقد أشبه حالُها حالَ أبي فراس الحمداني الذي قال : معلِّلَتي بالوصلِ والموتُ دونَــــــــهُ إذا مِتُّ ظمآنَ فلا هطلَ القطرُ (13)
* وهذه قصّةُ حبٍّ أخرى من قصص الحب عند العرب إلاّ أنّ المبادرَ بالحبِّ هذه المرةَ هي الفتاةُ وليس الفتى كما سلف ، فقد حكى صاحبُ النُزهة، قال نشأ ببنـي حَرّانَ شابٌّ لبعضِ التُجار يُدْعى واصفاً ، وكان كامل الحُسن والظَرفِ واللَّطافةِ والعِفَّة ، وكان له ابنةُ عمٍّ تسمّى لطيفة ، وكانت على أرفعِ ما يكون من مراتبِ الجمالِ ومحاسِنِ الأخلاق والخصال. فتوفّي أبوها وتركها صغيرةً فكفِلَها عمُّها حتّى بلغت ، فكانت تنظر إلى ابنِ عمِّها فيُعجبُها إلى أنْ تمَكّن حبُّه منها ، فمرِضت وهي تكتُم أمرَها . وكانت امرأةُ عمّها فطِنَةٌ مجرِّبةٌ للأمور ، فامتحنَتْها فوجدتْها تغيب عن حِسِّها أحياناً . فإذا دخلَ الغُلامُ صَحَتْ والْتَمَستْ ما تأْكُلُ فأخبرت أباه ، فقال: يا لها نِعمةً ، ثمّ زوجَه منها فأوقع الله حبَّها في قلبِهِ فأقاما على أحسنِ حالٍ مدّةً ، وهو يأمرُها أنْ تكون دائماً متزيِّنةً متطيِّبةً ، ويقول لها: لا أُحِبُّ أنْ أَراكِ إلاّ كذا ، فلم يزالا على ذلك حتى ضَعُفَ الشابُّ ومات، فحزِنت عليه وفقدت عقلَها ، فكانت تتزيَّن بأنواعِ زينتِها ، كما كانت تفعل في حياته ، وتمضي وتمكُث على قبرِه باكيةً إلى الغروب . قال الأصمعيُّ : مررتُ أنا وصاحبٌ ليَ بالجبّانةِ فرأيتُها على تلك الحالة فقلنا لها علامَ هذا الحزنُ الطويلُ : فأنشدت: فإنْ تسألاني فيمَ حُزني فإنّنـي رهينـــــــــــــةُ هذا القبر يا فَتَيــــانِ وإنّي لأستحييـه والتُرْبُ بينَنـا كما كنتُ أستحييه حين يراني فعجبنا منها ثم جلسنا بحيث لا ترانا لننظر ما تصنع فأنشدت: يا صــــــــــــاحبَ القبرِ مَنْ كان يُؤنِسِني وكان يكثــــــــــــرُ في الدنيـــــا مُـــــــــــوالاتي قـد زُرْتُ قبرَك في حُلْيٍ وفي حُـــــــــــــــلَلٍ كأنّني لستُ مِن أهلِ المصيبــــــــــات لزمتُ ما كنت تهوى أَنْ تَراه وما قد كنتَ تألَفُــــــــه من كلِّ هيــــــــــــآتي فمَنْ رآني رأى عَبْرى مُولّهَـــــــــــــــــــــــــــــةً مشهـــــــورةَ الزِيِّ تبكي بين أمــــــــواتِ (14) وهذه قصّةٌ أخرى من قصص الحب العفيف النظيف انتهت بموت العاشقين ، قيل إنه كان في بنـي عُذرةَ فتى ظريف يهوى محادثة النساء ، فعلِق جاريةً فأضنَتْه حتى لَزِمَ الوِسادَ ، وسئلتْ في أمره فامتنعتْ حتى إذا بلغ الموتَ ، جاءته فحين رآها أنشد: أريتِكِ إنْ مرّتْ عليـكِ جَنازتي تَمُرُّ على أيدٍ طِــــــــــــوالٍ وشُرَّعِ أمـــــا تتبعين النعشَ حتّى تُسلِّمي على رمسِ ميتٍ في الحفيرةِ مُودَعِ فحلفت أنها لم تعلم أنّه بلَغَ به الحُبُّ إلى هذه الحال وأخذت تستعطفه ، فتمثّل بقول بِشْرٍ بنِ حَضْرَمٍ الكِلاعي: أتت وحياضُ الموتِ بينـي وبينَها وجــادت بوصلٍ حين لا يَنفع الوصلُ ثم أُغشيَ عليه وانكبَّت تقبِّله ، فإذا هو مَيِّتٌ فلم تَمْكُثْ بعدَهُ إلاّ قليلاً ثمّ ماتت . (12) وهذا شيخٌ لم يمتْه الحبُّ إلا أنّه بلغ نهاية شوط الحياة ولم يزل يحمل حبَّه في قلبه . قال بعضهم : رأيت في بنـي عُذْرَةَ شيخاً فقلت: هل بقي من حبِّك بقيّةٌ ؟ فقال : كأنَّ قَطاةً عُلِّقت بجناحهــــــا على كبدي من شدَّةِ الخفقان وأنشد للمجنون: كأن القلبَ ليلةَ قيل يُغدى بليلى العامريّةِ أو يُراحُ قطــــاةٌ غرَّهـــا شَرَكٌ فباتتْ تجُاذبُهُ وقد عَلِقَ الجنــــــاحُ (13) * وهذه عاشقة تناجي الله عزَّ وجلَّ في موسم الحج وهي بمزدلفة شاكيةً إلي ما تعانيه من حُرقة الوجد وألم الهجر ، ويطلب منها أن تسأل الله العافية والتوبة من العشق فلا تفعل لأنها لا تعتبره ذنبا ً، فعن العبديّ ، قال : إني لَبُمُزْدَلِفَةَ بين النائمِ واليقظانِ إذْ سمعتُ بكاءً حَرِقاً وغناءً عالياً . فاتّبعتُ الصوتَ فإذا أنا بجاريةٍ كأنّها الشمسُ حسناً ومَعها عجوزٌ . فلَطِئتُ بالأرضِ لأمتّع عينـيَّ بحسنِها ، فسمعتُها تقول : دعوتُك يا مـــــــــــــــــــــــــــــــولاي سراً وجهـرةً دعاءَ ضعيفِ القلبِ عن مَحْمَـلِ الحُبِّ بُليتُ بقاسي القلبِ لا يَعرف الهوى وأَقْتَـــــــــــلِ خلقِ اللهِ للهـــــــــــــائمِ الصبِّ إن كنتَ لم تقضِ المودَّةَ بينَنــــــــــــــــــــــــــا فـــــــــــلا تُخْـــلِ مِن حُبٍّ له أبـــــــــــــداً قلبـي رضيتُ بهذا ما حَييتُ فإنْ أَمُتْ . . . فحسبـي مَعـــــــــــاداً في المَعــــــــــــادِ به حسبـي قال : وجعلتْ تردّد هذه الأبيات وتبكي ، فقمت إليها وقلت: بنفسيَ مَن أنتِ ؟ مع هذا الوجه وهذا الجمال يمَتنعُ عليك مَن تُريدين ؟ قالت : نعم والله إنه يفعل تصبُّراً وفي قلبِه أكثرُ ممّا في قلبـي ، قلتُ : فإلى كم البكاءُ ؟ قالت : أبداً أو يصيرَ الدمعُ دَمَاً وتَتلفُ نفسي غمّاً . فقلتُ : إنّ هذه آخرُ ليلةٍ من ليالي الحجِّ ، فلو سألتِ الله تعالى التوبةَ ممّا أنتِ فيهِ رَجَوْتُ أنْ يَذهبَ حبُّه من قلبك ، قالت : يا هذا ، عليك بنفسك في طلب رغبتك ، فإني قد قدّمتُ رغبتـي إلى من ليس يجهلُ بُغيتـي وحوّلتْ وجهَها عنـي ، وأقبلتْ على بكائها وشعرِها .(14)
وهذه قصّةٌ أخرى من قصص الحب لم يمت بطلها ، هذه المرّةُ ، إنّما كان له شأن مع الخليفة الأمويِّ الأوّل ، الصحابي الجليل معاويةَ بنِ أبي سفيان {رضي الله عنهما } . حكى أبو الفرج ، عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزيِّ في كتابه المترجَمِ بذمِّ الهوى ، بسندٍ رفعَهُ إلى هشام بنِ عُروَةَ ، قال : أَذِنَ مُعاويةُ بنُ أبي سفيانَ يوماً للناس ، فكان فيمن دخل عليه فتًى من بنـي عُذرةَ . فلمّا أخذ الناسُ مجالسَهم ، قام الفتى العُذريُّ بين السِماطين فأنشأ يقول: مُعاويَ ، يا ذا الفضلِ والحلمِ والعقـــلِ وذا البرِّ والإحســـــــــان والجــود والبذل أتيتُك لمـّــــــا ضاق في الأرض مَسْكني وأنكرتُ ممّــا قــد أُصِبْتُ به عقلي ففــــــــــرَّجْ ــ كلاك الله ــ عنِّي فإنني لَقيتُ الذي لم يَلْقَهُ أحــــــــدٌ قبلي وخُذْ لي ـ هَداك الله ــ حقِّي مِن الذي رمــــاني بسهمٍ كان أهونَـــــــــــــــه قتلي وكنتُ أُرجّي عَــــــدلَه حين أتيتُــــــــه فأكثــر تردادي مـــــع الحبسِ والكَبْلِ سبــــاني سُــــــــعدى وانبرى لخُصومتي وجـــــارَ ولم يَعدِلْ وغـــــــــاصبنـي أهلي فطلَّقتُهــــــــا مِنْ جَهْدِ مـــا قد أصــابنـي فهذا أمـــــيرَ المؤمنــــين من العــــــدلِ؟ فقال معاويةُ {رضي الله عنه }: ادْنُ بارك الله عليك ، ما خَطبُك ؟ فقال : أطال الله بقاء أمير المؤمنين إننـي رجل من بنـي عُذرةَ ، تزوجتُ ابنةَ عمٍّ لي . وكانت لي صَرمةٌ من الإبِلِ وشُويهاتٌ فأنفقتُ ذلك عليها ، فلمّا أصابتنـي نائبةُ الزمان وحادثاتُ الدهر ، رغِبَ عنـي أبوها . وكانت جاريةً فيها الحياءُ والكرمُ ، فكرهتْ مخالفةَ أبيها . فأتيت عاملَك مروانَ بنَ الحكمِ مُسْتَصْرِخاً به راجياً لنُصرتِهِ . فذكرتُ له قصتـي ، فأحضرَ أباها وسألَه عن قضيّتـي . وكان قد بلغه جمالهُا ، فدفع لأبيها عَشَرةَ آلافِ درهمٍ ، وقال له : هذه لك،وزوّجنـي بها وأنا أضمن خلاصَها من هذا الأعرابيّ فرَغِبَ أبوها في البذلِ فصار الأميرُ لي خصماً وعليّ منكَراً ، فانتهرني وأمرَ بي إلى السجنِ وأرسل إليّ أنْ أُطلِّقَها فلم أَفعلْ . فحبَسَنـي وضيَّق عليّ وعذَّبنـي بأنواع العذاب ، فلمّا أصابنـي مَسُّ الحديدِ وألمُ العذابِ ولم أجدْ بُدّاً عن ذلك ، طلقتُها . فما استكملتْ عدَّتها حتّى تزوَّج بها . فلما دخلَ بها أرسلَ إليّ فأطلقنـي . وقد أتيتُك يا أميرَ المؤمنين مُستجيراً بك ، وأنت غياثُ المكروب ، وسند المسلوب . فهل من فرج؟ وبكى وقال في بكائه : في القـــلــب منِّي نارُ والنـــــــارُ فيها اسْتِعــارُ والجســـــم منِّي نحيـــــــلٌ واللونُ فيـــــه اصفـرارُ والعينُ تَبـــــكي بِشَجْــــوٍ فدمعُهــــــا مِـــــــــــــــدرارُ والحبُّ داء عســــــــيرٌ فيــــه الطَّبيبُ يَحـــــارُ حُمِّلت منه عظيمــــــــــاً فمـــــــــا عليه اصطبــــــارُ فليس ليلي ليـــــــــــــــلاً ولا نهــــــاري نهــــــــــارُ فرقَّ له معاويةُ وكتب إلى ابنِ الحكم كتاباً غليظاً ، وكتب في آخره: رَكِبْتَ أمــراً عظيمـــــــاً لستُ أعرفه أستغفرُ اللهَ من جَـــــــــــــــــوْرِ امرئٍ زاني قد كُنت تُشبه صُــوفيــــــــــــــــاً له كُتبٌ من الفـــــــرائض أو آيـــــــــــــــــات فرقانِ حتَّى أتانا الفتى العذريُّ منتحبــــــــــــــــــــــــاً يشكو إليّ بحقٍّ غيرِ بُهتـــــــــــــــــــــــــــــــــــانِ أُعطي الإله عهوداً لا أخيس بهــــــــــــــــــا أو لا فبرِّئتَ من دينٍ وإيمـــــــــــــــــــــانِ إن أنت راجعتَني فيمــا كتبتُ بِـــــهِ لأجعلنَّــــــــــــــــك لحمــــــــــاً بين عُقبــــــــانِ طلِّق سُعــــــــــــــــــــــــادُ ، وجهزهــــا معجَّلةً مع الكُميتِ ومع نصرِ بنِ ذُبيـــــــــــانِ فما سمعتُ كما بُلِّغْتُ من عجب ولا فِعــــــــــــــــــالُكَ حَقّـــــــاً فعلَ إنســـــــانِ ثم طوى الكتابَ ودَفَعَه إلى الكُميتِ ونصرٍ بنِ ذُبيانَ وقال: اِذهبا به إليه . قال : فلمّا وَرَدَ كتابُ معاويةَ على ابنِ الحكمِ وقرأه تَنَفَّسَ الصُعَداءَ وقال:وَدِدْتُ أنَّ أميرَ المؤمنين خلَّى بينـي وبينها سنةً ثمّ عَرَضنـي على السيفِ وجعلَ يؤامِرُ نفسَه في طلاقِها فلا يَقدِر . فلما أزعجه الوفدُ طلَّقها وأسْلَمها إليهما . فلمّا رآها الوفدُ على هذه الصورةِ العظيمةِ وما اشتملت علي