عبد الرحيم العطري
ظاهرة تشغيل الأطفال بالمغرب : عنوان بارز للهشاشة الاجتماعية
برولوج في البدء !
ها قد انتهت الأستاذة الفاضلة المنافحة دوما عن حقوق الطفل من تقديم مرافعتها بشأن ضرورة القضاء على ظاهرة تعنيف الخادمات ، أفاضت في الحديث عن ظروفهن البائسة ، داعية الجميع إلى مزيد من التبرعات وإلى تكثيف الجهود لصالحهن طبعا ، أبكت الجميع ، لما روت حكاية منقوعة في الألم عن خادمة تعرضت لكل ألوان العنف و الاستغلال الجنسي الرخيص ، ختمت وسط تصفيق و بكاء و إعجاب مقترحة تغيير الإسم على الأقل " مساعدات بيوت بدل خادمات " .
أعجبت بها أيما إعجاب ، أخذتني في طريقها إلى مركز المدينة ، المكان الذي أقيم به اللقاء كان بأقاصي الرباط يرفل في نجومه البلا حدود ، ساقت بنا سيارة فاحشة الثراء بسرعة جنونية ، لم تكن تنتبه لعلامات تحديد السرعة ، إنها لا تخاف أداء الغرامات ، فجأة رن الهاتف ، تجيب بعصبية مفرطة " قولت ليك ما تاكليش مع الخدامة ، قولي ليها تصبن و تسيق و تنفض الزرابي ، و تضربها بحكة للدروج ، و ما تنساش تسقي الجردة و تغسل السيارة الصغيرة و تجمع الصالة ... و إيلا جيت من هنا واحد الساعة و ما لقيتهاش دايرا هذا الشي كولو ، راه غادا تاكل شي سلخة كثر من ديال الصباح "
............ برولوج من الواقع و كل تشابه في الشخوص و الأحداث ليس من قبيل الصدفة
كيف نقرأ الظاهرة ؟
كيف نقرأ من داخل العيادة السوسيولوجية ظاهرة بهذا المستوى من التعقيد و التركيب ؟ كيف نموضعها في سجلها الخاص قبل العام ؟ و أنى لنا و اكتشاف شروط إنتاجها و إعادة إنتاجها في رحاب المجتمع المغربي تحديدا ؟
إن الممارسة السوسيولوجية تهفو دوما إلى الفهم و التفهم عن طريق التمكن معرفيا من شروط إنتاج و إعادة إنتاج " الاجتماعي " ، و بالطبع فهذا المسعى العلمي لن يكون الوصول إليه ممكنا إلا بالارتكان إلى قراءة عميقة الشكل و المحتوى ، تنهجس " بتفجير الأسئلة " كما يقول بورديو .
و عليه فظاهرة تشغيل الأطفال بالمغرب ، لا يمكن قراءتها سويا و عميقا إلا باعتماد النقد و المساءلة التي قد تفسد على الناس " حفلاتهم التنكرية " ، فالاختزال أو العسف في النمذجة و التحليل لا يفيد و الحالة هاته ، لأن الظاهرة صارت تبصم المشهد المجتمعي بكل خساراتها و إعاقاتها الممكنة في تأشير دال و قوي على الانتشار و الامتلاء ، فها الأطفال في مختلف تضاريس المجتمع قد استحالوا إلى أقنان جدد يعنفون و يستغلون و يحرمون كرها و خطأ من طفولتهم ، داخل البيوت كخادمات من الدرجة الأخيرة ، و في المعامل و الورشات الصناعية كأجراء بلا أجرة ، و كعبيد و إماء في عوالم اللذة و الألم، كعمال جنس على درب السياحة الجنسية ، أليست الدعارة عملا جنسيا بتعبير عبد الصمد الديالمي ؟
إذن كيف نقرأ ظاهرة بمثل هذا الحجم من الخسارة و الفداحة ؟ كيف نقرأها بموازاة خطاب رسمي يتأرجح بين الاعتراف بها و محاولة طمسها ؟ و أيضا في شروط سوسيوسياسية منتجة لها، و مستمرة دوما في تكريسها و تجذيرها ضدا على كل التوجهات و الطموحات ؟
حدود الحالة
تشير المادة 143 من مدونة الشغل إلى أن تشغيل حدث دون سن الخامسة عشرة ، ينتهي بالمشغل إلى أداء غرامة مالية تتراوح ما بين 25 ألف و 30 ألف درهم ، و يمكن أن تصير العقوبة سجنا نافذا من ثلاثة إلى ستة أشهر في حالة العود مع أداء الغرامة بشكل مضاعف . هذا ما ينكتب في فصول القانون ، فماذا عن المكتوب في تفاصيل الحياة الاجتماعية ؟ و ماذا عن الرقم الحقيقي لأعداد الأطفال دون الخامسة عشرة الذين انفرض عليهم قسرا أن يصيروا أجراء و أقنان بقوة الأشياء ؟
تشير أرقام مديرية الإحصاء إلى أن عدد الأطفال المشغلين بالمغرب والذين تتراوح أعمارهم بين 7 و14 سنة، تجاوز 600 ألف ، دون احتساب الأطفال الذي تقودهم ظروف الهشاشة و الفقر إلى الدراسة و العمل في آن واحد ، فضلا عن الأطفال غير المصرح باشتغالهم ، و الآخرين الذين يتعذر حصرهم بدقة متناهية من الذين وصفهم تقرير منظمة هيومن رايتش الأخير ، بأنهم أطفال " داخل البيوت ... خارج القانون". نفس الأرقام تؤكد أن %78 من الأطفال المشغلين هم من آل العالم القروي و يعملون في الغالب كرعاة ، في حين يشتغل أطفال المدن في قطاعات النسيج، والتجارة والأعمال المنزلية و ورشات إصلاح السيارات...
و مع أن الأرقام تستوجب دوما بعضا من الارتياب ، فإن واقع الحال يؤكد باعتماد بسيط لنوع من السوسيولوجيا العفوية ، بأن ظاهرة تشغيل الأطفال بالمغرب تفوق حدود التوقع بكثير ، و أنها تنتشر بقوة في كثير من المجالات ، و تتخذ صورا و مظاهر شتى مفتوحة على الاختلال و اللا سواء في كثير من الأحيان ، الشيء الذي لا يجعل منها ظاهرة محدودة الأثر ، بل ظاهرة منتجة لظواهر أخرى من العطب و الباثولوجيا الاجتماعية . فالأمر لا يتوقف عند حدود تشغيل مجحف أو " عادل " لهؤلاء الأطفال ، بل يتعداه من مستوى العلائق المفترضة بين رب الشغل و المشغل إلى مستويات أخرى من التحرش و الاستغلال الجنسي و العنف و الانتهاك الواضح لحقوق الإنسان .
و هذا كله يجعل حدود الظاهرة غير واضحة بالمرة ، سواء في شكل انبنائها و انوجادها أو في صيغة تطورها و تناميها ، فشروط الولادة و الإنتاج تظل مفتوحة على كثير من العوامل و المعطيات ، و إمكانات تجذرها و تفاعلها تظل هي الأخرى متوزعة على إشكالات و أعطاب قصوى تؤكد مستوى عال من الهشاشة و الاحتقان المجتمعي .
شروط الإنتاج
للظاهرة اتصال وثيق بالهشاشة الاجتماعية ، بل إنها عنوان بارز لمستوى التهميش و الإقصاء الاجتماعي الذي تعاني منه فئات عريضة من المجتمع ، فالسؤال السوسيولوجي العميق الذي نوجهه صوب " الانحدارات الاجتماعية " للأطفال المشغلين سيظل مفتوحا على الإعاقة و الهشاشة الاجتماعية ، إذ لا يمكن أن نتوقع ، طفلا مشغلا و مستغلا في آن ، قادما من فئات " عالية الكعب " ، بل الطفل إياه هو " ابن شرعي " لشروط إنتاج هشة تصنعها الفاقة و التهميش .
إنه يتحدر في مطلق الأحوال من " أسر عتبة الفقر " ، التي لا تتمثل الطفل إلا كمشروع استثماري و كيد عاملة تكتسب قيمتها الرمزية و المادية من المدخول الذي توفره لصالح الأسرة . من أقاصي الهشاشة الاجتماعية تولد الظاهرة و تستمر في الاتساع الكمي و النوعي ، مدشنة بذلك لظواهر أخرى ، من قبيل التحرش و الاستغلال الجنسي للأطفال . فالفقر هو الذي يجعل الطفل متعثرا في مشروعه الدراسي ، و هو الذي ينتج الهدر و الانقطاع الدراسي ، الذي يدفع الأسر إياها إلى الزج بأبنائها إلى تلك المصانع و الورشات أو البيوتات للعمل كأقنان .
كما أن التمثلات المنغرسة في قيعان الوعي الجمعي بصدد " خذلان الشهادات العليا " و بوار التعليم، لكونه لم يعد يعبد الطريق بيسر تام نحو " طابلة المخزن " ، كل هذا يدفع الأسر إلى" تقرير مصير " الأبناء بعيدا عن فصول الدراسة ، إلى الإفادات المادية المباشرة و السريعة التي يحصلون عليها من خلال تشغيلهم في ورشة أو مطبخ بيت ما .
إن هذه الارتباطات تجعل من شروط إنتاج الظاهرة مسألة بنيوية معقدة ، و هذا ليس غريبا في مجتمع مركب كما قال بول باسكون ، فالتركيب ملمح رئيس من اشتغال الأنساق الاجتماعية هنا و الآن . لهذا فالظاهرة لا يمكن أن نقرأها بعيدا عن الشرط السوسيوسياسي المنتج للهشاشة و الاحتقان ، فسنوات طويلة من الاختيارات اللاشعبية و من برامج التنمية المعطوبة ، لا يمكن أن تنتج إلا إعاقات مجتمعية بالجملة ، و ما ظاهرة تشغيل الأطفال إلا ترجمة واقعية لجزء من هذا الخسران و الإفلاس المجتمعي العام .
رسميا هناك أزيد من 600 ألف طفل تنسرق منهم طفولتهم ، يتحولون بقهر الهشاشة و التهميش إلى عمال في غير موعد العمل . و لا رسميا ، بل و واقعيا ، هناك رقم مهول و خطير لا يمكن الاعتراف به أصلا ، يؤشر على حالات من هدر الإنسان و حرمانه من حقه في حياة جديرة بالحياة .
التفاصيل المحرجة
في البرولوج / مفتتح القول تنكشف التفاصيل المحرجة جدا ، و تنفضح شروط إنتاج الظاهرة و كذا آليات استمرارها ، فالتعامل المناسباتي و المصالحي أيضا مع الظاهرة هو الذي يقف وراء تجذرها في تربة الواقع ، كما أن اعتماد المقاربة القطاعية الجزئية مسؤول أيضا عن هكذا وضع ، علما أن السبب الرئيس في جدل الإنتاج و إعادة الإنتاج يظل متصلا بالأساس بأسلوب القراءة و زاويتها تحديدا .
فقراءة ظاهرة تشغيل الأطفال تتم في الغالب بمعزل عن الظروف التي أنتجتها و التي يتداخل فيها السياسي و الثقافي و الاجتماعي و الاقتصادي ، كما أن قراءة امتدادها المجتمعي تبتسر و تختزل في تشغيل صرف دون النظر إلى المدخلات و المخرجات و كافة الأمور الثاوية وراء هذا العمل ، و بالطبع فهذا الشكل من القراءة ، و الذي لا يقيم أدنى ارتباط بين الواقع و الظاهرة ، هو الذي يؤخر إمكانات الانتهاء منها .
لنطرح آنا سؤالا مربكا لحسابات الكثيرين من مالكي وسائل الإنتاج و الإكراه : لماذا صارت الظاهرة اليوم موضع تساؤل و اهتمام رسمي ؟ هل هي ضرورات تلميع الصورة على المستوى الخارجي ؟ هل هي الاستجابة المحتشمة لآثار صفعات التقارير الدولية بخصوص الوضعية الكارثية لحقوق الأطفال ؟ ما خلفيات هذا الاهتمام و الانشغال من قبل الدولة و كذا مكونات " المجتمع المدني " القائم أصلا على الفرضية و تشوهات الفعل و جنينية المفهوم ؟
لقد غدت قضايا الطفولة ، و في مقدمتها ظاهرة تشغيل الأحداث دون السن القانوني محط اهتمام الكثيرين من آل المجتمع المدني و قبلهم آل المغرب الرسمي ، لكن ما الذي تحصل لحد الآن لفائدة هذا الطفل ، و هل تراجعت الأرقام ؟ أما أننا نسير في اتجاه تحويل كل أطفال الهامش و الهشاشة إلى عبيد القرن الواحد و العشرين ؟
واقع الأمور لا يؤكد إلا انبناء جديدا لهكذا وضع ، فآفاق العمل تنسد بابا تلو الآخر، مؤشرات الفقر سائرة في الارتفاع ، درجات الاحتقان تبلغ مداها ، تقرير السكتة القلبية رقم 2 للبنك الدولي يحذر من حدوث قلاقل و توترات يصعب احتواؤها ، أرقام الهدر و الانقطاع المدرسي آخذة في التنامي بالرغم من كل الجهود المبذولة في سبيل تعميم التمدرس و تشجيعه ، و فوق ذلك كله فثقافة الفقر و الفاقة المنتجة بامتياز لكل بواعث الخلل و الجنوح ، تبصم مسار مغرب الراهن و الغد ، فكيف السبيل إلى القضاء على ظاهرة تشغيل الأطفال و لو بنصوص قانونية أكثر زجرية أو مناظرات و ندوات للترف الفكري، أو حتى بفضل حركية مدنية مشبوهة، خطابها في واد و ممارستها في عالم فجائعي ينتهل من فنون الإقطاع كما في برولوج البدء الواقعي جدا .
هل من مخرج ؟
يقول بيير بورديو بأنه " إذا كان صحيحا كما يقول باشلار بأن على كل كيميائي أن يقاوم الخيميائي الذي يسكنه ، فإن على كل عالم اجتماع أن يقاوم النبي الاجتماعي المطالب بتجسيده من قبل جمهوره "، فالسوسيولوجيا لا تستوجب من ممارسها أن يكون "مصلحا اجتماعيا" ، لكن ألا يصير كذلك جراء امتهانه للنقد و مساءلة ؟ ألا ينتج طرق الإصلاح و تجاوز العطب عبر اختباره لشروط الإنتاج و إعادة الإنتاج ؟
فالمقاربة السوسيولوجية عندما تتوجه بأسئلتها العميقة و الجسورة في آن إلى طبيعة اشتغال أي نسق ، فإنها تحرج و تشاغب و " تفسد على الناس حفلاتهم التنكرية " ، و في ذلك كله تبيان و تعرية بالفعل و بالقوة لإمكانات الخروج و التجاوز ، فالفضح شرط وجودي لميلاد سوسيولوجيا ديناميكية ، أليس " عالم الاجتماع ، هو ذاك ، و بالضرورة ، من تأتي الفضيحة من جانبه " ، هذا ما علمنا إياه بول باسكون ، قبل أن يرحل رحيلا ملغزا في تاريخ السوسيولوجيا المغربية .
وفقا لهذا الفهم نعيد للسؤال الإشكالي لظاهرة تشغيل الأطفال بالمغرب وهجه و قلقه الفائق : هل من مخرج؟ و قبل طرح سؤال الحلول الممكنة و المستحيلة نعيد طرح السؤال الغائب و المغيب ، أي ذلك النص الغائب الذي يكشف الانحدارات الاجتماعية للأطفال المشغلين ، و بغير قليل من البراءة نتساءل ضديا هل الأطفال القادمون من حياة " الكعب العالي " يهمهم هذا الأمر ؟ و هو ما يعني بالمقابل أن مفتاح الظاهرة يكمن في الفقر كعطب اجتماعي منتج لكل الاختلالات .
اعتبارا للطابع التركيبي لإنتاج الظاهرة ، و بالنظر امتداداتها المجتمعية التي لا تظل لصيقة بمستوى العمل فقط ، بل تتجاوز ذلك إلى الاستغلال و التحرش و الانتهاك للحقوق ، فإن هذه الخاصية البنيوية تفترض بالتبعية تعاملا شموليا و مندمجا ، ذلك أن المقاربة القطاعية و الاختزالية تكشف عن محدوديتها و هشاشتها في الإعمال و المعالجة مما يفترض تعاملا جديا و عميقا يتوجه إلى المفاقس و المنابع الأولية لانوجاد الظاهرة ، و التي تكمن بامتياز في شروط الفقر و الفاقة و التهميش و الإهدار العلني للطاقات و الموارد و سوء التدبير .
إن الأرقام المهولة المعبرة عن ارتفاع الظاهرة لا يمكن أن تتضاءل و تنمحي من جنبات المجتمع بدون اعتماد مقاربة مندمجة لا تركز على إنتاج القوانين و تنظيم مناظرات الترف الفكري و تقديم مخططات لا ينكتب لها التحرر من سجن الرفوف و ادراج المكاتب ، و إنما تركز أساسا على معالجة الاختلالات العميقة التي تنتج الظاهرة و تزيد من تفاقمها ، فظاهرة تشغيل الأطفال ما هي إلا نتاج خالص للتهميش و الفقر و العطالة ، و بالطبع فالقضاء على مؤشرات و مولدات هذه الهشاشة سوف تحيل تشغيل الأطفال ظاهرة محدودة و معزولة ، إن لم نقل غير قائمة بالمرة . لكن هل من مخرج ؟ و هل تتوفر الإرادة فعلا لتكريس العدالة الاجتماعية و محو التفاوتات الطبقية التي صارت تقاس بالسنوات الضوئية بين الذين يملكون و الذين لا يملكون غير فقرهم و هشاشتهم ؟ هل نريد فعلا أن نحارب الفقر و الأمية و العطالة و تشغيل الأطفال و ما إلى ذلك من الأعطاب القصوى ؟ أم أن هذا الكل الإشكالي يفيد جيدا في الشرعنة و تكريس القائم من الأوضاع ؟
مع تحياتي