[تابع]
الفعلية"(14). غير أن آمال هؤلاء الفلاسفة لم تجد طريقها إلى التحقق رغم هامش الحرية والاستقلال الذي أصبح يتمتع به الإنسان منذ أن تحرر من وصاية الآلهة وجعل من نفسه مالكا وسيدا للطبيعة كما قال ديكارت R. Descartes. فهذا الإنسان غدا ضحية لعلومه ومعارفه، ثم إنه وجد نفسه محميا وموجها بعنف ذي طابع شرعي، هو عنف الدولة. لقد بينت بعض الدراسات المعاصرة المهتمة بتاريخ العلم والتقنية أن شمولية الدولة وكليانية التقنية La Technique هما من أبرز أسباب اغتراب الإنسان في الفترة المعاصرة. فمنذ نهاية العصر الوسيط بدأ الإنسان يعترف باستقلال مختلف دوائر نشاطه الإبداعي. ومع انبثاق بداية العصر الحديث بدأت كل دوائر الثقافة والحياة الاجتماعية بالتأكيد على خصوصياتها، وعلى ضرورة تطورها طبقا لقوانينها الخاصة، وبعيدا عن أية مرجعية روحية. ومن هذا المنطلق تمكنت القوى الخلاقة للإنسان، التي كانت محاصرة في العصر الوسيط، من الازدهار. فلم تعد السياسة أو الاقتصاد أو العلم أو التقنية تتحدد استنادا إلى أي قانون أخلاقي أو أي مبدأ روحي يكون متعاليا ومختلفا مع دائرة عمل هذه العلوم الخاصة. ويمكن القول أن الميكيافيليه في مجال السياسة والرأسمالية في مجال الاقتصاد، والعلموية في مجال العلم، والنزعة الوطنية في حياة الشعوب، تمثل كلها نتائج لاستقلال تلك العلوم. ورغم ما يتضمنه هذا الاستقلال من مزايا إيجابية فإن مصير الإنسان يحتوى، في هذه المرحلة المعاصرة من تاريخ البشرية، على تناقض أساسي أدى إلى اغترابه: لأن استقلال مختلف دوائر نشاطه لم يعبِّر عن استقلال الإنسان ذاته ككائن متكامل الأبعاد. ونتيجة لذلك أصبح هذا الإنسان شيئا فشيئا عبدا للدوائر المستقلة الغير خاضعة للفكر البشري. ولئن تحددت، في هذه الفترة المعاصرة، دوائر الاقتصاد والتقنية والحرب بوصفها ظواهر كليانية، فإن الادعاءات الشمولية الأكثر أهمية هي ادعاءات التقنية التي صُنفت، منذ نتشه وهيدغر وحتى رواد مدرسة فرنكفورت، بوصفها شكلا من أشكال العدمية والاغتراب. فهي لا تعترف أولا بأي مبدأ يتعالى على قوانينها، ثم إنها متحالفة مع الدولة التي أصبح دورها شموليا أيضا. إن التطور الرائع للتقنية، بما هي دائرة مستقلة، قاد إلى الظاهرة الأساسية المميِّزة لعصرنا: ألا وهي الانتقال من الحياة العضوية إلى الحياة المنظمة(15)، حياة ترتبط فيها قيمة الإنسان بمدى فائدته وبمدى قدرته على التحول إلى "مشارك حقيقي في المؤسسة الاجتماعية"(16). إننا إذن أمام حالة من الاغتراب والتيه سببها التقنية، وهذه الحالة مشابهة، حسب Nicolas Berdiaeff، لما قد يسببه عنف "الدولة الحديثة" من اغتراب سياسي لأفراد المجتمع. فعادة ما تتصور الرعية بأن الدولة تتصف بأسمى درجات العدل والديمقراطية والحرية، وأن خيرها وشرها يصبان في مصلحة الجميع، ويحميان ويوجهان رعاياها نحو المصلحة العامة، غير أن ثقة الرعية، في هذه الدولة المثالية، قد تتزعزع أحيانا حالما تعجز عن ممارسة القوة، أو العنف المشرع، في حدود ضرورات تطبيق القانون، فيتحول عندها العنف إلى إسراف (Abus ) في حين أن القوة التي "تظل في انسجام مع وظيفتها هي شرط التوازن والنظام والسلام"(17) على حدِّ تعبير أرسطو. لقد قال تروتسكيTrotsky ذات يوم أن "جميع الدول قائمة على العنف"(18)، وهذا رأي صائب إذ لو لم توجد سوى هياكل اجتماعية لا أثر فيها لأي نوع من أنواع العنف لزال مفهوم الدولة عندئذ ولن يبقى إلا ما يسمى "بالفوضى"(19)، غير أن ثمة اختلاف هاهنا بين عنف صادر عن دولة ديمقراطية، وعنف صادر عن دولة كليانيةEtat Totalitaire. فما تمارسه الدولة الديمقراطية من عنف استثنائي، ضد بعض رعاياها، منظم بالقانون ويصب في المصلحة العامة للمجتمع، أي أن عنفها إنما يهدف إلى تمكينها من القيام على أحسن وجه بوظائفها على اختلافها، مثل وظيفة التسيير الإداري والوظيفة التربوية والوظيفة الاقتصادية والوظيفة الأمنية، إضافة إلى ما تتمتع به من سلطات كسلطة التنفيذ وسلطة البت إلى غير ذلك من امتيازات، لذلك عندما يقال في مثل هذا النوع من الدول بأن "الدولة سلطة" أو أنها "سلطة إرغام" فلا تناقض بين القولين لأنها تبقى في النهاية سلطة معنوية لتحديد الواجبات وإحقاق الحقوق. أما العنف الذي تمارسه الدولة الكليانية فلا يهدف إلى إقامة "حالة من اللاعنف" حسب تعبير أريك فايلEric Veil، كما أنه ليس ذا طابع جزائيٍّ أو تأديبي في الكثير من الأحيان، بل هو علامة على يأسها، وقد تحوَّل عندها إلى "مؤسسة ووسيلة للحكم"(20) مثلما قال ج.غاسدورف G.Gusdorf. صحيح أن عنف الدولة يسمى أحيانا "بالعنف المُشَرَعْ" لأنه يجد أحيانا ما يبرره، غير أن عنف الدولة الكليانية نابع من تصميمها على الاستئثار بقوة الردع المادي بغية امتصاص ردود فعل المقاومة داخل المجتمع. إن دكتاتورية الدولة الكليانية مشابهة تماما لتلك التي يصفها المفكر السياسي جوليان فروند Julien Freund، فهي أولا عبارة عن نظام عنف يتصدى "بوسائل مصطنعة للّعبة الطبيعية للقوى والمقاومات التي توجد عادة في كل مجتمع [ثم إنها] تعوق قيام العلاقة الضرورية للقوى [والتي] بدونها تغدو كل وحدة سياسية فريسة الخوف والرُّعب. [وأخيرا فإنها] دكتاتورية لا تعترف إلا بقوة واحدة تستبعد كل قوى أخرى"(21). عندما تتصرف الدولة على هذا النحو تحيد عن غايتها الأصلية وتُضيع حق رعاياها "في إعمال العقل وإبداء الرأي"(22) كما يقول سبينوزا Spinoza. ولعلها تكون بذلك أيضا رمزا للاستبداد ومن ثم مؤسسة فعالة لاغتراب الإنسان سياسيا إن لم نقل اقتصاديا ودينيا واجتماعيا. ولما كانت الدولة "لا يمكن أن تفنى"(23) إذ بدونها تنتفي إمكانية تنظيم الحياة الاجتماعية، كان من اللازم أن "تُوكَلَ مراقبتها إلى تقنية مؤسساتية خاصة"(24) قائمة على ضمانات** دستورية تَحُدُ من تجاوزاتها وتضمن استمرار العمل الفعال والمعقلن لمختلف عناصر مؤسساتها***. عندها فقط يمكن إدراك كيف أن منزلة الدولة في حياة الإنسان اليومية من الأهمية "بحيث يعسر أن [يزيحها] دون أن يهدد شروط إمكان حياته"(25) ذاتها. يبقى أن دولة بهذه الأهمية لا يمكن أن تكون إلا ديمقراطية لأن "الكرامة البشرية لن تجد مكانتها إلا في الديمقراطية وقد أصبحت فعليا ممكنة، وهذه الديمقراطية ذاتها هي الإقامة البشرية الأولى. [و] ما يتحكم هنا، بدون زيادة، هو الإنساني عموما بما هو بالضبط الموضوع المستقبلي القائم في النزعة الاجتماعية"(26).
هوامش
* الاغتراب يعني بشكل عام الحرمان من حق أو من ميزة معينة. لم يعد الاغتراب الذهني يكتسب معنى سيكولوجيا بل أصبحت له دلالة اجتماعية. وهذه الدلالة تدل على الحرمان من المعنى الاجتماعي، واستحالة العيش عيشة طبيعية. والحياة غير الطبيعية يمكن أن تكون هنا حياة العبقري أو ببساطة حياة الغريب الذي يقدم إلى مجتمع غير مجتمعه. وعبارة مُغْتَرَبْ، في معناها السريري الدال على الجنون، لا تثير شيئا آخر سوى طابعها الغريب على ما هو طبيعي، وعلى العادات الاجتماعية الخاصة بنا. أما الاغتراب العمالي، الذي ألحت علية الماركسية، فيعني ببساطة عدم امتلاك الإنسان (العامل) لنتاج عمله: فيكون العامل مغتربا لأنه يعامل كشيء وكأداة للعمل، لذلك لا يهتم شخصيا بعمل لا يستفيد من نتاجه وربحه. أنظر: Didier Julia. Larousse, Dictionnaire de la Philosophie.1991.
1 Paul Ricœur , Histoire et Vérité.Paris. Edition du Seuil.1964. P. 273.
2. G. Balandier , Anthropologie Politique. Paris. P. U. F. 1967. P. 43.
3. IBID , P. 43.
4. Karl Marx , Critique de Economie Politique. Paris. Edition Sociales. 1957.P.5.
5. Karl Marx Critique de économie Politique. Manuscrit 1844.Edition Gallimard. 10.8 Union Générale d, édition 1972.P.88.
6. IBID.P.89.
7 أنظر حول ذلك المصدر الآتي : Karl Marx , Critique du droit Politique Hégélien.
8. Engels , origine de la Famille , de la propriété Privée et de Etat. Editions sociales. P.155.
9. Karl Marx , Critique de économie Politique. Paris. Editions sociales.1957.P.4. 10. رينيه سرُّو : هيغل والهيغلية. ت. الدكتور أدونيس العكره. دار الطليعة بيروت. ط.أولى. 1993. ص.71.
11. أنظر المرجع الآتي : Grigore Dumitrescu , Le Holocauste des âmes , Munich 1978, Paris. Librairie Romaine , 1997.
12. رينيه سرُّ : هيغل والهيغلية. مرجع سبق ذكره. ص.71.
13. أنظر حول ذلك : Hegel , Principe de la Philosophie de Droit. Remarque du Paragraphe 258.
14. Marc Jimenez , qu , est - ce que Esthétique ?. Edition Gallimard. 1997.P.377. 15. أنظر حول ذلك المرجع الآتي : Nicolas Berdiaeff , Royaume de Esprit et Royaume de César.1949.
16. Sieyès , Ecrits Politiques. Edition Zoppéri. R. 1994.P.199. 17. Julien Freund , essence du Politique.Paris. Edition . Sirey.1965.. p.720. 18. Max weber , Le Savant et Le Politique. Paris Edition Plon. 1940.1879.P.111. 19. IBID.P.111
20. أنظر الصفحات 79 – 82 من: G.Gusdorf , La Vertu de La Force. Edition. P.U.F
21. Julien Freund. L’essence du Politique,op,cité.P.720.
22. Spinoza , Traité Théologico - Politique.Paris. Edition Flammarion.. 1966. P. 330.
23. Paul Ricœur. Histoire et Vérité. Op.cité.P.278.
24. IBID.P.278.
** تتمثل هذه الضمانات في إقامة نقابات مستقلة / إجراء انتخابات حرة ونزيهة ودورية / ضمان حرية الإعلام واستقلال القضاء.
*** نقصد هنا بالمؤسسات : البرلمان / النظام الانتخابي وغيرها من الآليات الدستورية مثل فصل السلطتين التشريعية والقضائية عن السلطة التنفيذية. ولعل ضمان حسن سير هذه المؤسسات كفيل بالحد من تجاوزات الدولة وبالتالي القضاء على ظاهرة الاغتراب السياسي داخل المجتمع.
25. G.Burdeau. Etat.Paris. Edition du seuil. 1970.P.13.
26. Ernst Bloch , Le Principe Espérance , Tome III , Edition Gallimard. P.540.
المصادر والمراجع باللغتين العربية والفرنسية:
1. رينيه سرُّو : هيغل والهيغلية.ترجمة الدكتور أدونيس العكره. دار الطليعة بيروت. ط.أولى. 1993.
2. Didier Julia.Dictionnaire de Philosophie. Ed.Larousse. Bordas. 1991.
3. Ernst Bloch , Le Principe Espérance , Tome III , Edition Gallimard. 4. Engels , origine de la Famille , de la propriété Privée et de Etat. Editions sociales.
5. G.Burdeau. Etat.Paris. Edition du seuil. 1970.
6. G. Balandier , Anthropologie Politique. Paris. P. U. F. 1967.
7. Grigore Dumitrescu , Le Holocauste des âmes , Munich 1978, Paris. Librairie Romaine , 1997.
8. G.Gusdorf , La Vertu de La Force. Edition. P.U.F.
9. Julien Freund , essence du Politique.Paris. Edition . Sirey.1965.
10. Hegel , Principe de la Philosophie de Droit. Remarque du Paragraphe 258.
11. Marc Jimenez , qu , est - ce que Esthétique ?. Edition Gallimard. 1997.
12. Max weber , Le Savant et Le Politique. Paris Edition Plon. 1940.1879.
13. Nicolas Berdiaeff , Royaume de Esprit et Royaume de César.1949.
14. Paul Ricœur , Histoire et Vérité.Paris. Edition du Seuil.1964.
15. Karl Marx , Critique du droit Politique Hégé