إنســـانيــات .. نحـو عـلم اجـتماعى نـقدى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

إنســـانيــات .. نحـو عـلم اجـتماعى نـقدى

خطوة على طريق الوعي
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 بول ريكور: مسيرة فيلسوف

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
د. فرغلى هارون
المدير العـام

د. فرغلى هارون


ذكر عدد الرسائل : 3278
تاريخ التسجيل : 07/05/2008

بول ريكور: مسيرة فيلسوف Empty
مُساهمةموضوع: بول ريكور: مسيرة فيلسوف   بول ريكور: مسيرة فيلسوف Empty26/11/2009, 2:06 am

بول ريكور: مسيرة فيلسوف Paul_ricour

بول ريكور: مسيرة فيلسوف
المفكر الذي أفرغ الطلبة الماويون سلة مهملات علي رأسه
بقلم فرانسوا دوس
ترجمة: محمد الفحايم

مجلة الغربال الثقافية 25/6/2008
يثير اسم الفيلسوف الفرنسي بول ريكور الأسئلة التالية: لماذا ظلت أعمال هذا الفيلسوف، الأكثر مقروئية في العالم، خارج دوائر النقاش الفرنسي في سنوات الستينيات والسبعينيات؟ لماذا تم نفي ريكور من المشهد الثقافي الفرنسي؟ ولماذا انزوي، فترة من الزمن، في الهامش؟ ولماذا كانت أعماله محط اكتشاف من جديد ابتداء من نهاية الثمانينيات؟ هذا الاكتشاف الذي ارتبط بصدور عدد خاص عنه من المجلة الشهيرة (فكر) في تموز (يوليو) 1988، وبندوة (سيريزي) التي أقيمت حول أعماله في الشهر والسنة ذاتهما، وبصدور الأجزاء الثلاثة من مؤلفه الزمن والحكي في طبعة الجيب عام 1991.



ساهم ريكور ، الي جانب امانويل ليفناس، وميرلو بونتي، وجان بول سارتر، في التعريف بالفينومينولوجيا الألمانية بفرنسا، وارتبط بمجلة (فكر) التي أنشأ بها المجموعة الفلسفية وكانت له بها زاوية منتظمة بعنوان علي تخوم الفلسفة . بدأ الفينومنولوجيا في الخمسينيات، لكنه خلال الستينيات اشتغل ضمن العلوم الانسانية وبخاصة ضمن التحليل النفسي الفرويدي، وهو ما أثار العديد من سوء الفهم مع اللاكانيين 1 و الألتوسيريين . كان صدي منجزه الفلسفي محدودا في فرنسا، في فترة هيمنت فيها السارترية و اللاكانية و البنيوية ، وفي السبعينيات كانت اهتمامات ريكور ، أكثر فأكثر، أنغلوساكسونية. وبدا رائدا في اشاعة الفلسفة التحليلية الأمريكية بفرنسا.

لم يستشعر ضرورة الالتزام السياسي، وكان يرفض الالتزام السارتري ويفضل عليه ما يسميه بـ الانفصال ، لكنه لم يتخل عن التدخل في الفضاء العمومي. ومن هنا يصلح ليكون اسوة: أي باحتفاظه بمسافة تبعده عن الايديولوجيات والفلسفات الراديكالية من دون أن ينكر الاحتجاج والمناضلة ضد المؤسسات الظالمة. ونذكر، ههنا، موقفه المعارض للحرب الاستعمارية الفرنسية بالجزائر.

واذا كان قد استقبل ثورة أيار الطلابية (1968) بكثير من الحدب، وبدا له الحدث مناسبة لاصلاح الجامعة، فانه غادر بعد سنة من هذا التاريخ مدينة (نانتير) التي كان عميدا لجامعتها، بسبب ماعرفه فيها من حادثة حقيرة أضحت شهيرة: (ألقي طلبة ماويون سلة مهملات علي رأسه)، بيد أن السبب الحقيقي وراء تركه الجامعة يكمن في سماح النظام للشرطة باقتحام حرم الجامعة، والتسيس المفرط لدي الأساتذة في سنوات الغبار هذه لما بعد 68.

ظل بول ريكور فعالا في عدة جبهات، وذلك بتناوله لبعض الموضوعات الجوهرية كالبيئة أو المسائل التي تطرحها البيوأخلاقية، كما سار في طليعة احدي المظاهرات الأولي المناهضة للحرب علي البوسنة بـ: 21 ـ 11 ـ 1992 بباريس. واختار موضعة المسألة السياسية في قلب المفارقات التي يجابهها، عندئذ ظهر الاسهام الجوهري لريكور حول الخطة المزدوجة للفلسفة السياسية وفلسفة الحق. وله قول يري فيه، بحق، ان المشكل الرئيسي للسياسة هو الحرية .

اذا كانت الستينيات والسبعينيات قد أبعدت ريكور من ساحة النقاشات الفكرية الفرنسية، فان المرء يفهم، اليوم، عودة الاهتمام بأعماله في فترة ما بعد 1989، وهي فترة اتسمت بعودة الفلسفة السياسية بقوة.
عرفت فلسفته بأنها فلسفة منفتحة تأبي الانغلاق في فضاء مسدود، لأن كتبه ومقالاته يحضر فيها مفكرون آخرون كأرسطو وأفلاطون وأوغسطين وليفناس وهيغل وهيدغر وهوسرل ونابر وبرغسون، هكذا يحاور بول ريكور الفلاسفة الاغريقيين والألمان والانكليز والفرنسيين، تمحي عنده الحدود والعصور، فثمة فلاسفة يقيمون باستمرار، وآخرون يعثر عليهم أو يلتقي بهم بالمصادفة، لذا يتعذر حصره في تيار أو تقليد فلسفي ما. انه يشيد عمارته الفلسفية من الظاهراتية والتأويلية ومبحث الوجود والأخلاق والفلسفة السياسية والتحليلية.


الترجمة
ولد بول ريكور عشية الحرب العالمية الأولي في 27 ـ 2 ـ 1913 ووسمه هذا القرن المأساوي بميسمه بعمق، لقد اجتاز القرن وهو ملتزم كل الالتزام برهاناته الكبري كيما يمنح لمعناه بعض الاضاءة.
ينحدر من عائلة بروتستانتية، عاش اليتم مبكرا اذ فقد أمه بعد ولادته بقليل، ثم أباه الذي اختفي أثناء معركة (المارن) في 9 ـ 1915. انخرط باكرا في الحلقات الفلسفية، وكان يتردد علي جمع (غابرييل مارسيل) الذي لعب دور المنبه بالنسبة اليه. وقد ورث عنه، خاصة، السلوك الذي كان يلزم به كل المشاركين في لقاءاته، وهو أن لا يدعوا البتة كلام شخص آخر، بل أن يثبتوا وجهة نظرهم الخاصة بهم، واكتشف، من جهة أخري، بالتعارض مع التكوين التقليدي جدا الذي تلقاه بالسوربون، التأمل الفلسفي الذي يسلم بأولية الفعل والحدث أي لعبور التجربة ولممارسة مساءلة دوما ينبغي أن تقود الانسان الي الحراك.


في زمن الوجوديات
كان بلوغ سن العشرين عام 1933، بالنسبة لشاب مجاز في الفلسفة يتهيأ لتحضير شهادة التبريز في موضوع: (مشكل الله عند لاشوليي ولانيو)، مناسبة للمشاركة في ما سيسميه جان تروشار بـ: (فكر أعوام الثلاثينيات)، الذي اتسم بغليان شبيبة رافضة تسعي لايجاد طريق ثالث يرفض منظور المادية الفردانية ومنظور المادية الجماعية.

في هذا السياق ظهر عدد من المجلات ذات المشارب المتنوعة نحو: كفاح و النظام الجديد و خطط ، ولم تثر حماسته سوي مجلة فكر التي أنشئت عام 1932، وهي حماسة بروتستانتي مهووس بحرية القول واليقظة التي قادته الي خلق مجلة صغري عام 1936 عنوانها الكينونة . كتب كل مقالاته الأولي عام 1935 في المجلة المثيرة والصاعقة التي عنوانها: أرض جديدة ، لسان حال (المسيحيين الثوريين المنتمين لاتحاد المسيح والعمال من أجل الثورة الاجتماعية) والتي كان غلافها يحمل صليب المسيح ومطرقة ومنجل الشيوعية.

تم تجنيده عام 1939 بوصفه ضابط احتياط، وسرعان ما وقع أسيرا في قبضة النازيين، فنقل، أولا، الي بوميرانيا الشرقية، ثم ثانيا الي آرنسوالد التي سيقضي فيها مدة الحرب كلها. في هذا المعتقل وجد نفسه في مرقد مع سبعة رفاق جميعهم مثقفون. وكان من ضمنهم ميكيل دوفرين ، وهو فيلسوف مثله سيدرسان معا مؤلفات كارل ياسبرز ، وسيكون من ثمار هذه القراءة المشتركة عمله الأول المنشور عام 1947: (كارل ياسبرز وفلسفة الوجود) الذي كتبه بالاشتراك مع دوفرين . وترجم، في الآن نفسه، هوسرل الفيلسوف الذي تعرض لمنع النازيين بسبب يهوديته، وقد ترجمه خلسة بعيدا عن نظرات سجانيه، وظهرت الترجمة عام 1950.

بعد خروجه من الأسر، درس الفلسفة وحضر أطروحته عن الارادة.كانت فترة ما بعد الحرب تشهد نجاحا باهرا لفلسفة سارتر الوجودية، هكذا اجتاز بول ريكور ، هو الآخر، عبور الوجودية، لكنها وجودية يغذيها، بخاصة، فكر غابرييل مارسيل ، و كارل ياسبرز و كيركغارد . بعد ذلك قرّ قراره عام 1948 بجامعة ستراسبورغ التي سيخلف فيها جان هيبوليت ، كان له من العمر، وقتئذ، خمسة وثلاثون عاما ويتهيأ ليعيش ثماني سنوات مفعمة بالسعادة في كنف جماعة تشهر عقيدتها البروتستانية، ومن بين أصدقائه البروتستانت: روجي ميهل و جورج كاساليسش ومجموعة فكر . في سنوات الخمسينيات هذه، عالج في كتاباته بمجلة (المسيحية الاجتماعية) قضايا اجتماعية جوهرية، سيعيد كتابتها وتنقيحها.

تجلي التزامه كذلك بقضايا المدرسة بوصفه رئيسا للفيدرالية البروتستانتية للتعليم ما بين 1947 و1960، فدافع عن علمانية مفتوحة مواجهة، ورفض في نفس الوقت محاولات الانكفاء علي تعليم مذهبي ومواقف العلمانية القائمة علي الاقصاء. في ظل مناخ الحرب الباردة التي كانت تقود العالم الي شفير الهاوية، دافع بحزم عن طريق ثالث بين القوتين العظميين، هدفه أن يصون السلم العالمي، ولما خيم اليأس عام 1956 بعد اعلان تقرير خروتشوف الشهير، وتداعيات حرب الجزائر والحرب الثلاثية علي مصر: (الانكليز وفرنسا واسرائيل)، نلفي بول ريكور يحلل في مجلة فكر المفارقة السياسية، ويدعو المثقفين ألا يهجروا ميدان السياسة الذي يظل أساسيا من أجل بناء الكائن ـ المكتمل. من هنا نبعت مواقفه السياسية.

وقد ظل ريكور، في هذه السنوات بالخصوص، هو المعرف بـ هوسرل في فرنسا مع ليفناس و ميرلو بونتي ، وبسبب افتنانه عام 1945 بفينومينولوجيا الادراك لميرلو بونتي تعاطي ريكور فينومينولوجيا الفعل. في 1950 سيدافع عن أطروحته حول الارادة التي هدفت الي أن تكمل عمل ميرلو بونتي ، وسيعين، علي اثرها، أستاذا بالسوربون عام 1955. هذه السوربون العتيقة كانت تئن تحت وطأة الاكتظاظ لذا كان يفتقر فيها للتحاور مع طلبته، هذا التحاور الذي طالما أحبه.

عرف ريكور بوصفه رجل تربية قديرا، ذا مواهب، ما جعل المدرجات التي يحاضر فيها تمتليء عن آخرها، وكان الطلبة يتكدسون فيها دون أن يظفروا بالاقتراب منه، لذا اكتفي بالدروس الالقائية. وبفضل جماعة فكر طاب له المقام من جديد في مدينة ستراسبورغ . شرع يسكن، بدءا من عام 1957، بـ: الحيطان البيضاء وهي اقامة بالمجمع الذي أنشأه ايمانويل مونيه عام 1939، حيث التقي فيه بالجماعة الصغيرة التي كانت تشرف علي مجلة فكر . لقد وقف هؤلاء المسيحيون التقدميون موقفا معارضا لسياسة الحرب علي الجزائر، وسرعان ما عدت هذه الحيطان البيضاء بمثابة مبني أحمر أضحي البوليس السري يتهدده، أما الطلبة فيدافعون عنه. وذات صباح التاسع من حزيران (يونيو) 1961 رأي ريكور رجال الشرطة يداهمون منزله فيقتادونه الي المخفر الذي سيمكث فيه أربعا وعشرين ساعة يخضع فيها لبحث دقيق.

الانعطافات البنيوية والمغامرة النانتية
ابتداء من عام 1960، وبعد مقالته ـ المنعطف: (الرمز يحمل علي التفكير) نشرها بـ فكر 1959، حدد ريكور توجهاته الفينومينولوجية في ضوء ما تثيره العلوم الاجتماعية من أسئلة ستحمل لواء البنيوية. لقد كان في لحظة هامة من مسيره الفلسفي، لحظة سيعتبرها، فيما بعد، ذات وقع هيرمينوطيقي علي برنامجه الفينومينولوجي. انه وقع سيتجسد، بالدرجة الأولي، من خلال غوصه في أعمال فرويد الذي أثمر دراسته: (عن التأويل: دراسة في فرويد )، ثم بمحاورة عالية مع كاود ليفي ستروس في: (فكر1963)، وبعد ذلك سيتجسد بمشاركة حقيقية جمعته بـ: ألجيرداس جوليان غريماس في ميدان الصداقة والثقافة، وهي الفترة التي اكتشف فيها ريكور كتاب الهيرمينوطيقي الألماني هانز ـ جورج غادمر : (الحقيقة والمنهج)، ونشره ضمن سلسلة كتبه بدار النشر لوسوي . ان ريكور ، بوصفه فيلسوفا حاضرا في جميع ميادين الحداثة ومصغيا لزمنه، قد بلغ من اشرافه علي الأطاريح رقما لا يصدق، اذ كانت الكثرة الكاثرة من طلاب الفلسفة، الذين يودون القيام بمشاريع أبحاث غير مألوفة، يتوسلونه للاشراف عليهم. مع ذلك كان عليه أن يواجه الرفض العنيف لمنجزه من قبل أتباع ألتوسير و لاكان ، الذين اعتبروا الهيرمينوطيقا، باسم نزعة علمية زعموا تمثيلها، روحانية عتيقة متجاوزة قطعيا، ما نجم عنه زوال مؤقت للحظوة أصاب ريكور في أوج صعود البنيوية.

في عام 1964 ولما طرح أمر المشاركة في انشاء جامعة جديدة بالضاحية الباريسية بـ: نانتير ، ذهب ريكور ليؤسس بها شعبة الفلسفة التي عين فيها، من بين من عيّن، رفيقه في الأسر: دوفرين ، ثم، فيما بعد بكثير، عيّن ليفناس . وفي بحث أنجزه لفائدة مجلة فكر حذر من عواقب المركزية، وشدد علي ضرورة تجاوز الدروس الالقائية بدروس توجيهية من أجل تأطير الطلبة تأطيرا جيدا، وتنبأ في خاتمة تحليله بأن انفجارا مدرسيا سيحدث فيتحول الي (كارثة وطنية) اذا لم تجر التغيرات المنشودة. وما كانت لتفاجئه، أبدا، الثورة الطلابية في أيار (مايو) 1968.
في 1969، والاصلاح الجامعي يتم تطبيقه، بدأت جامعة (نانتير) تبحث عن عميد ينال قبول العناصر الطلابية الأكثر راديكالية، فوجدت في ريكور رجل الحوار المناسب، بيد أنه قدم استقالته يوم 9 ـ 3 ـ 1970 احتجاجا علي اقتحام الشرطة للحرم الجامعي وما خلفته المواجهات مع الطلبة من جرحي وموقوفين.


المنفي الظاهر
هذا الفشل الذي يضاف اليه اخفاقه في الترشيح لمنصب التدريس بالكوليج دي فرانس عام 1969، والذي فاز به ميشيل فوكو ، سيقود ريكور الي المنعطف الأمريكي. لكنه لجأ، أول الأمر، الي جامعة ( لوفان ـ بلجيكا) حيث درس لثلاث سنوات في هذا الصرح العتيد للفينومينولوجيا مقر أرشيف هوسرل . اعتاد أن يقوم بجولات في الولايات المتحدة يدعي اليها لالقاء محاضرات بشكل منتظم ابتداء من 1954. خلف بول تليش في المعهد الديني لشيكاغو، وسيعين أيضا في قسم الفلسفة ابتداء من 1970، وهو المنصب الذي ظل يشغله حتي 1992. وهذا ما اعتبره البعض بمثابة منفي، لكن الأمر ليس كذلك اذ ظل ريكور يقيم بفرنسا موزعا وقته بينها وبين الولايات الأمريكية التي ارتبط فيها بصداقة مع ميرسيا الياد ، حيث نظما، سوية، بعض الندوات وقاما، معا، ببعض الرحلات. أما أعماله فشهدت نجاحا متألقا بالولايات المتحدة التي كان فيها المعرف بالفينومينولوجيا والهيرمينوطيقا في مناخ جامعي تهيمن فيه، بلا منازع، الفلسفة التحليلية. في سنواته الأمريكية : في 1975 وبين 1983 و1985 ظهر له كتابان يشكلان الأجوبة الحقيقية علي البنيوية ويتيحان حيازة منجزاتها. هذان الكتابان هما: (الاستعارة الحية) وثلاثية (الزمن والحكي).

اقرار بالاعتراف
أزفت ساعة الاعتراف حين اكتشف، باعجاب، جيل من المثقفين الشباب قوة وانسجام فكر ظل يغتني علي الدوام، فأضحي للكثيرين، حينئذ، نموذجا للمثقف الذي يطرح عليه الحدث أسئلته فيجيبه ليس بوصفه معلما مفكرا، بل معلما يفكر. لقد كان ريكور الباعث علي التعرف المتأخر علي الفلسفة التحليلية بفرنسا، وعلي الاكتشاف من جديد للفينومينولوجيا.انه عابر نموذجي يتموقع عند ملتقي ثلاث فلسفات: الفلسفة التأملية الفرنسية والفلسفة القارية والفلسفة التحليلية.
قامت مجلة (فكر) بتخصيص عدد له عام 1988، ونشرت أعمال أيام ريكور التي نظمتها بالاشتراك مع مركزي (سيفغ) و(بومبيدو). وفي السنة ذاتها عقد لقاء بـ: (سيريزي) كان موضوعه: فكر ريكور حيث كشفت الدراسات التي قدمت فيه عن ثراء الطروحات التي كان نفعها يعم ميادين متنوعة من العلوم الانسانية: من التاريخ والتحليل النفسي مرورا باللسانيات وعلم الاجتماع بدون احتساب اسهامه الهام والعميق في مجال التفسير.
لقد كان رائدا في المهام التي أنجزها لدار (لوسوي)، باعتباره ناشرا، حين أطلق عام 1964 بمعية فرانسوا فال سلسلة النسق الفلسفي التي أتاحت التعريف بالفلسفة التحليلية الأنغلوسكسونية، فالفضل يعود اليه في تعرف الجمهور الفرنسي علي جون أوستين وقراءة كتابه: (عندما يكون القول هو الفعل) ابتداء من 1967، أو أيضا بيتر فريدريك ستراوسن بدءا من 1973.كما ساهمت حلقاته الدراسية في اشاعة الفكر الفينومينولوجي والهيرمينوطيقي والفلسفة التحليلية، وكذلك جدد المجلة العتيقة: (مجلة الميتافيزيقا والأخلاق) التي ظهرت عام 1893.
**النص المترجم عبارة عن مقاطع مأخوذة من مقال طويل لـ: فرانسوا دوس ، مؤرخ ومحاضر ألف كتاب: (بول ريكور، دلالات حياة) ـ نشر المقال في العدد 390 من المجلة الأدبية 9 ـ 2000.

--------------------------------------------------------------------------------
وهذه صفحة كاملة عن الفيلسوف نشرت كملف فى جريدة المدى بتاريخ 25 مايو 2005
تحتوى على سيرة موجزة لحياته ومقال له يتحدث فيه عن نفسه، ونظرة على أهم مؤلفاته
على الرابط التالى

http://www.4shared.com/file/77574200/f093bb78/_____.html
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://social.alafdal.net
د. فرغلى هارون
المدير العـام

د. فرغلى هارون


ذكر عدد الرسائل : 3278
تاريخ التسجيل : 07/05/2008

بول ريكور: مسيرة فيلسوف Empty
مُساهمةموضوع: رد: بول ريكور: مسيرة فيلسوف   بول ريكور: مسيرة فيلسوف Empty26/11/2009, 2:14 am

بول ريكور: مسيرة فيلسوف Art.302176

غياب الفيلسوف بول ريكور صديق العرب وحليفهم
اضطهده اليسار الفرنسي وأهانه فاختار تغريبة أميركية طوعية
الدكتور صالح مصباح
أستاذ الفلسفة بجامعة تونس

جريدة الشرق الأوسط عدد 29 مايو 2005
انضاف يوم الجمعة الماضي، إلى قائمة كبار مفكري القرن البائد الذين فارقونا أخيرا، اسم الفيلسوف الفرنسي بول ريكور ـ استحضر آخرهم الفرنسي جاك دريدا وقبله المعمر الألماني هانز غادمير وقبله الأميركي جون راولز، وليس صدفة ان يكون هؤلاء جميعا من أصدقائه، ومن الأكثر عالمية.


والحق ان الكلام في هذا المقام عن ريكور ليس بمثل يسر الكلام عن غادمير او راولز مثلا بل وحتى عن دريدا ذاته، لان هذا الفيلسوف قد كان ذا وضع ملتبس في المجال الفكري الفرنسي، رغم كونه بامتياز منفتح التفكير،فقد سعى إلى الانفتاح على خارج الفلسفة من لاهوت وسياسة وأدب وعلوم إنسانية، بل انه جعل الفلسفة في حوارية دائمة مع ذلك الخارج، من دون ان يهمل حوارها مع تاريخها الخاص، أو مع ذاتها.
لم تكن «سيرة بول ريكور الفلسفية» (1995) منفصلة البتة عن مسيرة حياته ذاتها بل انه، كان شاهدا بصفته فيلسوفا، وفاعلا بصفته مواطنا فرنسيا اولا عالميا أخيراً، (يشي بذلك ما جمعه من مقالات بعضها اسماها «قراءات» (1991-1992-1994) واخرى «العادل» (1995-2000) في هذا «القرن القصير جدا» قرننا العشرين (1918 -1989) حسب تحقيب المؤرخ الانجليزي هوبزباوم . بل انه خلافا لما قد يظن البعض، التحم بول ريكور أكثر من مفكرين كثيرين غيره ـ يعتبرون عادة من الفاعلين السياسيين والنظريين ـ في مجريات ذلك القرن : فلقد وسمت كبريات أحداثه بميسمها حياته ذاتها، ولعل في ذلك بعض ما يفسر انشغاله بالتاريخ وبالزمان، وباختراق رؤية تراجيدية للعالم تفكيره، هي في تقديرنا رديف أزمة الحداثة ذاتها.
وقد كانت بداية تلك التراجيديا عندما أفقدته الحرب الكبرى الأولى التي كانت نفير أزمة قيم الحداثة والعقل، والده وهو لم يبلغ بعد سنه الثالثة.أما الحرب الثانية التي كانت «أوج أزمة الحداثة» فقد جعلته يعيش تجربة المعتقل النازي الذي مثل أول تجل للبربرية الحديثة بل» براديغم الشر المطلق» ذاته.
ولكن تجارب أخرى اقل حدة قد فعلت فعلها أيضا فيه، نعني تجربة العزل الفكري، بل والعنف المادي والاضطهاد الجامعي الذي عاناه في الساحة الفكرية الفرنسية، سنوات سيطرة اليسار الإيديولوجي في فرنسا (1968- 1984)، هذا رغم انه كان قد سعى إلى المشاركة في اصلاح المؤسسة الجامعية الفرنسية على خلفية ثورة الطلاب سنة 1968 ذاتها، ولكنه اهين، الأمر الذي قد يكون دفعه إلى نوع من التغريبة الأميركية الاختيارية بداية من 1972، وهي تجربة جعلته يكتشف «العالم الجديد» ويطعم تفكيره بل وقناعاته السياسية ذاته، بمصل جديد هو «روح الفكر التحليلي» الأنجليسكسوني، بعد أن كان سعى إلى فهم التراجيديا الأولى والثانية بمقدرات التفكير الوجودي والشخصاني الفرنسي رافد تفكيره الأول، وبمقدرات الفينومينولوجيا الألمانية التي بدأ في الاشتغال عليها منذ المعتقل الألماني في بولندا عندما ترجم بقلم الرصاص في طرة النسخة الأصلية الألمانية لكتاب هوسرل «افكار توجيهية من اجل الفينومينولوجيا».

لقد دفعته تربيته الدينية البروتستانتية عند محاولة فهم ما حصل بين 1939 و1945 إلى اختيار نوع من الوجودية المؤمنة التي استلهمها من كارل ياسبرس الذي ظل يعتبره طوال حياته ملهمه الأول، بل والتي «ساعدته أثناء فترة الاعتقال النازي» وذلك لأنها تحمل جزءا ايتيقياً مهما هو «إمكان بناء علاقة حوارية مع الآخر تقوم على الاعتراف والتفاهم» (2004). ولكن ذلك لم يتجل عنده بوضوح الا عند مواجهة قضية عقدية وانطولوجية حقيقية هي قضية الإرادة في أطروحته التي لم تكن مجرد عمل أكاديمي همه النجاح العلمي، بل كانت في ذات الوقت بحثا فلسفيا يحترم قواعد العمل الأكاديمي الرصين و«تجربة روحية» حقيقية موضوعها مسألة صميمة في المسيحية عموما وفي البروتستانتية بالأخص هي مسألة الشر. والواقع أن مسوغات ذلك لم تكن منحصرة في استعادة مسألة لاهوتية وفلسفية كلاسيكية، بل كانت نوعا من التأمل في الشر الذي شهده العالم في النصف الاول من القرن العشرين على نحو يختلف عن ما أنجزته حنا ارندت حول الكليانية، او ما انجزه موريس ميرلوبونتي حول الحرب والعنف من تحاليل سياسية، فلقد سلك ريكور مسلكا آخر في ثلاثيته حول «الإرادي واللاإرادي» (1950-1960) هو ما يمكن أن نسميه «مسلكا ايتيقيا» وقد اقتفى في ذلك سبيل مواطنه الفيلسوف ايميل نابار.
غير أن تحدي العلوم الإنسانية المزدهرة في أوائل خمسينيات القرن دفعه إلى الاضطلاع بذات المسائل الفلسفية انطلاقا من امتحان صلابة ما تقترحه تلك العلوم وبالأخص التحليل النفسي من نماذج تفسيرية أهمها على الإطلاق، التأويل التحليلي غريم التأويلية الفلسفية والهرمونطيقا الدينية في ذات الوقت وهذا ما أنجزه في كتابه حول فرويد 1965 الذي كان موضوع هجوم شديد من قبل جاك لاكان وأتباعه، وفي كشكوله حول نزاع التأويلات 1969 .

أما التغريبة الأميركية فقد أنتجت في فكر ريكور منعرجا لغويا حقيقيا، جعلته يصبح معاصرا حقيقيا لما حصل في تاريخ الفكر الحديث من تحول من تفكير محوره الوعي (واللاوعي كذلك ) إلى تفكير مستحدث محور اللغة، كان منطلقه التفكير في فعل الاستعارة وحياتها (1975)، ودفعه إلى استعادة التفكير في مسائل الزمان ( 1983-1984-1985) والهوية ذاته(1990)، على نحو جديد هو النحو التحليلي، وهو ما يظهر في كتابات الفترة الأخيرة.
وفي النهاية، فإن كتابه الأخير الهام والضخم حول الذاكرة والتاريخ والزمن (2000)الذي يعتبر بحق «وصيته الفلسفية» ييبن ان ذات الخيط الايتيقي الناظم، هو الذي ينسق كل ما كتب ريكور، منذ كتابه الأول بالاشتراك مع صديقه الاستيتيقي ميكيل دوفرين حول ياسبرس (1947)، انتهاء إلى الكتاب الاخير الذي تحضر فيه قضايا «واجب الاستذكار» و «الصفح» و«الافادة»، مرورا بكتاباته المتأخرة حول الشر باعتباره تحديا للفلسفة واللاهوت على حد السواء (1986) وجل القضايا الحقوقية والاخلاقية المستجدة (1995 -2001). وكتابات ريكور كلها مرتبطة بما كتب حول الارادي واللاارادي، وتسعى إلى الاضطلاع الفلسفي والاخلاقي بما حصل خلال الحرب الثانية وخلال التجربة الشيوعية، ولكنها لا تتنازل عن مقتضى العقل امام سطوة الهوى (2001 )،ولذلك فهي تؤكد على عدم اهلية الذاكرة وحدها لبناء معرفة تاريخية، لأن الذاكرة لا يمكن الا ان تبني تاريخا يهدف إلى التأكيد على نوع من الهوية السردية لتلك الجماعة، تستوي في ذلك «ذاكرة الناجين من المحرقة النازية» وذاكرة «الناجين من غولاغ المحتشدات الستالينية».

كلمة أخيرة عن صلة ريكور بنا نحن العرب، فمن البين أن فكره يحضر بقوة في إنتاج عديد المفكرين العرب الذين يشتغلون على قضايا الزمن والتاريخ والتراث والهوية من الفلاسفة، ومن نقاد الأدب ومن علماء النفس بل ومن دارسي الأديان كذلك المسيحيين العرب والمسلمين. ولقد كان من المعارضين الصارمين لحرب الجزائر، وكان من الذين نادوا على خلفية نوع من الإنصاف منذ 1958 بوجود دولتين في فلسطين واحدة للفلسطينيين وأخرى لليهود.أما أخيرا فقد كان من المعارضين لمنع الحجاب في المدارس العمومية الفرنسية، ومن المناصرين على الدوام لقضايا المهاجرين. وقد كان ريكور من الذين أحاطوا علميا بعديد الطلبة العرب وخاصة من لبنان و تونس والمغرب ومصر، الذين درسوا في فرنسا، ولم يتوان عن التحول إلى هذه البلدان للتدريس والمحاضرة. وداعا بول ريكور انك لفقيدنا نحن أيضا.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://social.alafdal.net
د. فرغلى هارون
المدير العـام

د. فرغلى هارون


ذكر عدد الرسائل : 3278
تاريخ التسجيل : 07/05/2008

بول ريكور: مسيرة فيلسوف Empty
مُساهمةموضوع: رد: بول ريكور: مسيرة فيلسوف   بول ريكور: مسيرة فيلسوف Empty26/11/2009, 2:25 am

بول ريكور: مسيرة فيلسوف Paul_ricour

الحوار الأخير مع الفيلسوف الفرنسي بول ريكور: لا اعرف ما تعنيه كلمة حديث
ناتالي كروم برونو فرابا وروبير ميكليريوني
ترجمة وتقديم
عبد المنعم الشنتوف - جريدة القدس العربي

يتأسس هذا الحوار مع الفيلسوف الفرنسي الكبير بول ريكور (1913ـ 2005) على رهان رئيسي يتمثل في القبض على السمات المميزة لمساره الفلسفي المتميز بالثراء اللافت والمعقد. عرف مشروع الفيلسوف على امتداد ستة عقود من الاشتغال المكثف تحولات أساسية تميزت، من جهة، بانشغال قوي بالفينومينولوجيا والهرمنوتيقا أو علم التأويل، وبانفتاحه، من جهة أخرى، على تنويع من الحقول المعرفية التي نذكر من بينها علم النفس والتاريخ وعلوم اللغة والترجمة. حقيق بالإشارة في هذا الصدد إلى تميز هذا المشروع الضخم بوصله بين الفلسفة والأدب وهو ما وجد تمثيله في كتابه الموسوم ‘الزمن والمحكي ‘الذي انصب على حوار تحليلي عميق مع تجربتي مارسيل بروست وفرجينيا وولف.
على امتداد التحققات الوفيرة لهذا المشروع التي تربو على العشرين والتي نذكر من بينها ‘عن التأويل: دراسة لسيغموند فرويد ‘1965، ‘صراع التأويلات: مباحث في التأويل ‘1969، ‘الزمن والمحكي ‘3 أجزاء’ 1083ـ1985 ، ‘الذات باعتبارها آخرا ‘1990 و’ عن الترجمة ‘2004، نلمس انشغالا دالا بالوصل بين الفيلسوف أو المثقف والأخلاق. يمكننا أن نتمثل ذلك في تشديده على مفاهيم من قبيل المسؤولية والقناعة والنقد وضرورة احترام تعدد واختلاف الآخر. الإنصات إلى فلاسفة من عيار بول ريكور في السياق العربي الراهن سبيل إلى أن يستعيد المثقف مسؤوليته ودوره الفاعل في التاريخ وأن ينجز قطيعة أخلاقية مع أنماط السلوك الحربائي وحالات بيع الضمير بالجملة والتقسيط.



هل تشعرون بالرغبة في أن تقولوا شيئا ذا أهمية ضافية لأبناء تلامذتكم؟
سوف أستعيد في هذا السياق ما شكل عنوان أحد كتبي: ‘القناعة والنقد ‘، أعني بالقناعة في آن واحد الاستدلال والتحفيز الذي لا يسعنا أن نقدم تقريرا عنه. ثمة يقينا في قناعاتي عنصر لا يتسم فقط بالحميمية وإنما أيضا بالسرية واستحالة الإحاطة به من شخصي المتواضع. عندما يقول لي شخص ما: لم يكن في المقدور أن تكون فيلسوفا أو مسيحيا لو ولدت في الصين، فإن جوابي الوحيد هو: أنتم تتحدثون دون شك عن شخص آخر غيري. أما فيما يتعلق بأهمية الروح النقدية فإنني ألخصها في صيغة أتمنى أن لا تتحول إلى شعار: صدفة تحولت إلى مصير بواسطة اختيار يتسم بالاستمرارية. يتمثل المصير في أنني ولدت في حضن هاته العائلة وفوق هاته الأرض وفي هذا الشكل من التراث المسيحي الذي أنتمي إليه، وأنني أصبحت مباشرة في مرحلة الصبا الأول تجريديا. ثمة أيضا الانتماء إلى ثقافة غربية تنفرد بقدرتها على أن تمارس ليس فقط نقدا مطردا لاختيارات لم تتخذها بل نقدا ذاتيا. يتمثل الشكل الخاص لهذا الصدام بين القناعة والنقد فيما يخصني في انتمائي إلى المسيحية في تقليدها الإصلاحي والذي يمثل الانتماء إلى التراث الإغريقي الكبير جزءا لا يتجزأ منه. ثمة إذن المنبعان الإغريقي والعبري. وبفعل تقدمي في السن أصبحت أكثر حساسية وقدرة على التجاوب مع المرجعيات المتقاطعة منه إلى التعارضات والقطائع. وعلى سبيل التمثيل، فإنني أعثر بين أنبياء إسرائيل والمآسي الإغريقية على نوع من التجاوب والتصادي العميق.


هل ثمة حسب تصوركم ضعف في الروح النقدية والقناعات؟ هل يزعجكم ذلك؟
أنا لا أحيا، من جهة، في ظل نظام من الخوف، ولا أعتقد، من جهة أخرى، أن هذا الضعف حقيقة. ذلك أننا نوجد أيضا على المستويات الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية في عهد من الاحتجاج. ولا اعتقد في هذا السياق أن الينابيع النقدية مهددة. ويكفي أن تذهب إلى الشرق الأدنى، إلى الصين أو اليابان لكي تكتشف أنه ليس ثمة من مثيل للإنسان الغربي وأننا نمثل في الحقيقة قوة نقدية. ينضاف إلى ذلك أنني لا أعتقد أننا نقوم بتقييم جيد للزمن الذي نعيش فيه. نلمس ذلك كما يلي: منذ الخمسين سنة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، أدركنا أننا حصلنا على تقييمات وأحكام متتالية لذواتنا وأنه لا علم لنا بالتقييم الذي يصدر في حقنا بعد ثلاثين سنة. لا يمكن لمجتمع معقد ومتناقض أن ينجز خلاصة تقييمية لوجوده. ينبغي أن نقوم بتعليق هذا الحكم المستهجن الذي ينبغي لكبار السن أن يحترسوا منه أكثر من الآخرين.

هل يشعر الفيلسوف أيضا بصعوبة التقييم هاته؟
الفيلسوف هو أول من يشعر بهذه الصعوبة. منذ أن ولجت هذا الفضاء الذي يشكل بالنسبة لي فضاء النضج ـ لنقل منذ أواسط الثلاثينات من القرن العشرين حين اجتزت بنجاح امتحان التبريز ـ عبرت بفيض من المشاهد الفلسفية؛ بحيث يعجزني الجزم بأيها سوف يكون اللاحق أو بالــذي له الهيمنة حاليا. لا علم لي في الوقت الراهن بوجود فلسفة مهيمنة يمكننا القول بامتلاكنا لها ـ كما حدث على سبيل التمثيل مع الوجودية في لحظة معينة ـ من بين كل المشاهد الفلسفية المتناقضة التي رأيتها وهي تتعاقب والتي انتميت إليها أحيانا سواء بشكل مركزي أو بشكل هامشي وهو الأغلب كما كان الحال مع الوجودية والبنيوية والماركسية.

لكم معرفة جيدة بالولايات المتحدة الأمريكية التي قمتم بالتدريس في جامعاتها على امتداد أربعين سنة. ما العلة حسب تصوركم في غياب الود المتبادل بين الأمريكيين والفرنسيين؟
إنني ألمس في البدء وبشكل يقيني نوعا من المنافسة بين ثورتين أو ربما نزوعين مختلفين نحو الكونية. بيد أنني لا أرغب في أن أخوض هذا النوع من التقييم الشامل. لنقل بأنني أكن إعجابا لا يوصف للجامعة الأمريكية وطريقة اشتغالها وطبيعة الأبحاث التي تجري برحابها. أما الآن، وفي غمرة هاته الانتقادات التي تصلني أصداؤها والتي تطول هاته الهستيريا الوطنية، فإنني أجد عسرا في استعادة هذا الإعجاب بالجامعة الأمريكية. ثمة مظهر آخر لأمريكا لا أحسني فقط غريبا عنه بل عاجزا عن تحمله، ويتمثل في هاته الأصولية البروتستانتية التي تتحدد في إسباغ رمزية إنجيلية على الأحداث السياسية. ينبغي تحرير السياسة من المعايير التي لا تمت لها بأية صلة. وهنا يكمن مكسب الغرب المتمثل في الفصل بين حلقة السياسة وحلقة الدين ليس بغاية حصر هذه الأخيرة في مجال ‘الخاص ‘وإنما بهدف وصلها بجمهور لا يمتلك القوة والوضع المؤسساتي.

كيف يمكن للفلاسفة أن يمارسوا تأثيرا على الواقع؟
ثمة عمل كبير ينبغي إنجازه ويتجاوز ما هو دلالي لكي يستشرف توظيفا صحيحا للمفاهيم وتطهيرا للمفردات وذلك بهدف الخلوص إلى إرغام متبادل على إنتاج الحجة الأفضل. استمعت هذا الصباح على سبيل التمثيل إلى نقاش انصب تحديدا حول قضية العداء للأمركة والمظاهرات السلمية التي يتجاور فيها المدافعون عن نزعة سلمية ميونيخية مثالية: ‘أيا كانت الحروب ودوافعها، فإنني لن أخوض أيا منها’ والاتجاه النقيض الذي يقول: ‘لن نخوض إلا الحروب التي تشرعها الأمم المتحدة ‘. ثمة اختلاف كبير بين الاتجاهين. هكذا، إذن، يضحي من اللازم إجراء تحليل للمسكوت عنه ولهذا الخبط المفاهيمي. ينبغي أن لا نستسلم لهذه النزعة البدائية المعادية لما هو أمريكي والتي تتبنى الفكرة التي مؤداها: ما دام أمريكيا فهو سيئ بالضرورة. يتحدد دور الفيلسوف بداهة في فهم الرهانات، وهنا يكمن حسب تصوري ما هو عصي على الاحتمال في إطار الوضعية الحالية أعني الجهل بالرهانات. لا قدرة لأحد على أن يعرف ما يريده هذا الشخص أو ذاك. لماذا العراق وليست كوريا الشمالية؟ ما هو دور الرهان النفطي؟ هل اتخذت الولايات المتحدة قرار الحرب بطريقة مسبقة؟ أحسني في حالة التباس ثقافي وعتمة شاملة لا مثيل لها وعصية على الاحتمال.

لنعد إلى شخصكم. كيف تعيشون المكانة الرفيعة التي تحظون بها؟
قيل باستمرار إن الاعتراف بريكور تم بشكل متأخر وأن ذلك ما يفتأ مستمرا في الوقت الراهن؛ وهو ما يشعرني دائما بالدهشة. لم أشعر إطلاقا فيما يخصني بأي نقص في الاعتراف بجهودي لسببين فيما أعتقد. حظيت دائما على افتراض عدم اعتباري فيلسوفا مهما بالإعجاب والتقدير من لدن طلابي. كنت في الحقيقة أستاذا سعيدا ولم أشعر بأي شيء من جراء عدم اعتباري معادلا من حيث الأهمية لجيل دولوز أو ميشيل فوكو. لقد سمحت لنفسي بأن أخص بالذكر هذين المفكرين اللذين أعجبت بهما أكثر من الآخرين. تتحدد العلة الثانية في أنني لم أكن أعير غير قليل من الاهتمام للقراء حين كتابة مؤلفاتي. وما كان يبدو يقينا إحدى مساوئ عدم الانتباه في لحظة زمنية معطاة لانتظارات القراءة أصبح في النهاية عنصر ديمومة. كانت مشكلتي متمثلة في معرفة ما إذا وفقت في الإجابة على أسئلتي الخاصة. وكان هذا سببا في جعلي ليس فقط قليل المبالاة بمن سوف يقرأني وإنما غير قلق من الطريقة التي استقبلت بها فعليا مؤلفاتي.

أية قراءات كانت الأجمل على امتداد حياتكم؟
تبقى الكتلة الإغريقية بالنسبة لي عصية على التغيير. ينضاف إلى ذلك أنني أقاوم بشدة أولئك الذين يرغبون من خلال مقررات الإصلاح الجامعي إنجاز قطيعة بين القدماء والمحدثين. أعترف بأنني أجد انجذابا قويا نحو الاستمرارية الثقافية الكبيرة. ونحن ننوجد داخل هذه الاستمرارية بشكل جيد حين قراءة المآسي أو كتـــب مؤرخي الإغريق. وتعزى العلة في ذلك يقيـــنا إلى أنه لم يحدث أي تغيير يذكر على امتداد الزمن فيما يهم الرغبات والأهواء السياسية والعلاقة بالسلطة. وقد استطاع أولئك الذين اعتادوا قراءة كتبي أنني نادرا ما أستعمل كلمة ‘حديث’ وأستعيض عنها بكلمة ‘معاصر’. لا أستعمل إطلاقا كلمة ‘حديث’ باعتبارها صنفا مقارنة بالقدماء. لا أعرف ما تعنيه كلمة ‘حديث’، ولم يكن حصرها في عصر الأنوار بالذي كان يروم إليه شارل بودلير الذي كان يقول إن ‘الحديث هو زمن العابر وليس الكوني’.

وقراءاتك الأدبية؟
كان لزاما عليّ وقد كنت طفلا وحيدا أن أكون قارئا. أعترف بأنني ما زلت مواظبا على قراءة الروايات المعاصرة: لوكليزيو وإيخنوز، كما أنني غالبا ما أعيد قراءة فلوبير: مدام بوفاري. أحب أن أعثر في الأدب على تمثيل حيوات الآخرين. أما سؤال التخييل فقد صادفته فيما يهمني حين اشتغالي على كتاب ‘الزمن والمحكي ‘ويتمثل في التنافس بين التاريخ والتخييل في سياق فهم الذات بمساعدة الخارج والآخرين.

كيف تنظرون إلى اقترابكم من سن التسعين؟
أعيشه بهدوء. وقد سبق لي أن عبرت عن أفكاري في خصوص الموت في كتابي ‘النقد والقناعة’. أما العبارة التي تصاحبني باستمرار فهي: أن أظل حيا حتى الموت. وتتمثل مخاطر أرذل العمر في الحزن والسأم. يرتبط الشعور بالحزن بذلك الإرغام على التخلي عن كثير من الأشياء؛ إذ ثمة ما يمكن وصفه بعملية نزع للملكية. يعتبر الحزن عصيا على الضبط، أما ما يمكن التغلب عليه فيتمثل في الاستسلام للحزن.؛ وهو ما كان آباء الكنيسة يطلقون عليه: أكيديا أو القرف المفرط من الوجود؛ وهو ما لا ينبغي للمرء أن يستسلم له. يتمثل دواء السأم في أن يظل المرء يقظا ومنفتحا على ما هو جديد؛ وهو ما كان ديكارت يدعوه بالإعجاب، وهو مثيل للدهشة. وأعترف شخصيا أنني ما زلت قادرا على الشعور بالإعجاب وإن بلغت سن التسعين.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://social.alafdal.net
 
بول ريكور: مسيرة فيلسوف
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
إنســـانيــات .. نحـو عـلم اجـتماعى نـقدى :: 
منتدى الخدمات العامة لجميع الباحثين
 :: 
ســــير وأعــلام وتراجــم
-
انتقل الى: