إنســـانيــات .. نحـو عـلم اجـتماعى نـقدى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

إنســـانيــات .. نحـو عـلم اجـتماعى نـقدى

خطوة على طريق الوعي
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 تحولات الثقافة ومنظومات القيم في مصر

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
د. فرغلى هارون
المدير العـام

د. فرغلى هارون


ذكر عدد الرسائل : 3278
تاريخ التسجيل : 07/05/2008

تحولات الثقافة ومنظومات القيم في مصر Empty
مُساهمةموضوع: تحولات الثقافة ومنظومات القيم في مصر   تحولات الثقافة ومنظومات القيم في مصر Empty15/12/2008, 11:23 pm

تحولات الثقافة ومنظومات القيم في مصر
د‏.‏ علي ليلة
أستاذ علم الاجتماع كلية الآداب‏,‏ جامعة عين شمس

مجلة الديمقراطية - العدد 31 - يوليو 2008
تلعب الثقافة ومنظومات القيم دورا محوريا في بناء المجتمع‏,‏ لكونها هي التي تتولي تنظيم التفاعل الحادث في المجتمع‏.‏ فالبشر يؤدون أدوارهم وينجزون سلوكياتهم وهم موجهون بقيم الثقافة‏.‏ ومن ثم فكلما كانت الثقافة ومنظومات القيم أكثر فاعلية في ضبط التفاعل الاجتماعي‏,‏ كلما توقعنا أن يكون المجتمع أكثر إستقرارا‏.‏ ذلك يفرض علينا التعرف علي ماهية الثقافة ثم ما هي منظومات القيم المشكلة لها‏,‏ ما هي مصادر الثقافة ومنظومات القيم‏,‏ ثم كيف تلعب الثقافة أدوارها في تنظيم التفاعل الاجتماعي‏.‏ وفي محاولة تحديد ما هي الثقافة فإننا نعرفها بإعتبارها تتشكل من منظومات القيم التي تلعب دورها في تنظيم التفاعل والعمل في مختلف مجالات الواقع الاجتماعي‏.‏

فإذا تأملنا بناء الثقافة من الداخل فسوف نجده يتشكل من ثلاثة عناصر أو مكونات أساسية‏.‏ المكون الأول هو منظومة القيم الوجدانية‏,‏ وهي تشكل القاعدة المعنوية التي يستوعبها الفرد من خلال التنشئة الاجتماعية التي تتم في الأسرة‏,‏ ثم في المدرسة بعد ذلك‏.‏ وتتمثل الوظيفة الأساسية لمنظومة القيم الوجدانية في كونها تربط الشخص بموضوعات بيئتة التي ينشأ فيها عاطفيا ووجدانيا كالارتباط بالأم‏,‏ والارتباط بالوطن‏,‏ والارتباط بالأسرة‏,‏ والارتباط‏'‏ بالعلم‏'‏ رمز الوطن‏.‏ ومن شأن هذه القيم أن تؤسس قاعدة الانتماء لدي الشخص لمرجعيتة الاجتماعية والوطنية بكل ما فيها‏.‏ ويتم إستيعاب هذا العنصر في شخصية الإنسان منذ الصغر وبصورة تلقائية في العادة‏.‏ ويتشكل العنصر الثاني من منظومة القيم الادراكية التي تتشكل من المعارف الحديثة التي يتعلمها الإنسان من المدرسة وحتي الجامعة‏.‏ وتتميز القيم الادراكية بكونها ليست من طبيعة عاطفية كالقيم الوجدانية‏,‏ ولكنها من طبيعة عقلانية بالأساس‏,‏ ومن شأنها أن تقوي الجانب العقلاني في الإنسان‏.‏ وتعد القيم التفضيلية منظومة القيم الثالثة وهي القيم التي تشكل مرجعية الإنسان في الإختيار والمفاضلة بين الموضوعات‏
.‏ ونحن إذا تأملنا منظومات القيم هذه فسوف نجد أن القيم الوجدانية هي الأكثر فاعلية في الصغر‏,‏ وكلما كبر الإنسان فإنه يتجه إلي العمل وفقا للقيم الادراكية العقلانية‏,‏ وكذلك تتسق هذه القيم مع السياق الاجتماعي ففي السياق الريفي نجد أن القيم الوجدانية هي الأكثر فاعلية وتأثيرا وإذا تحركنا إلي السياق الحضري فإن القيم العقلانية‏'‏ الإدراكية‏'‏ تكون هي الأكثر فاعلية وتأثيرها‏.‏

وتلعب الثقافة ومنظومات القيم المتضمنة فيها دورها في ضبط التفاعل الاجتماعي من خلال أربع صيغ‏.‏ من خلال الصيغة الأولي توجد القيم كما هي بإعتبارها عناصر رمزية توجه التفاعل في كل مجال من مجالات التفاعل الاجتماعي‏.‏ فهناك قيم خاصة بالأسرة‏,‏ وأخري خاصة بالتعليم وأخري خاصة بالاقتصاد كالأمانة مثلا والجودة‏,‏ والصدق وغير ذلك من القيم‏.‏ وتؤدي القيم دورها في توجية سلوكيات البشر في كل مجال من المجالات الاجتماعية‏.‏ ومن الناحية الثانية تتحول القيم في مجالات الواقع الاجتماعي المختلفة إلي أشكال معنوية ومعيارية تتولي ضبط التفاعل الواقعي بصورة مباشرة‏.‏ وفي هذا الإطار تتحول القيم إلي تقاليد وأعراف ومعايير وقواعد تتولي الضبط المباشر للتفاعلات والسلوكيات الواقعية‏,‏ فنحن نحتكم عادة إلي التقاليد والأعراف والمعايير في شئون حياتنا اليومية‏.‏ ويشكل الضمير الفردي الذي يتشكل من خلال عملية التنشئة الاجتماعية الصورة الثالثة التي توجد علي أساسها القيم في المجتمع‏.‏ إذ يستوعب الفرد من خلال هذه العملية قيم المجتمع ومثله فتشكل ضميره الفردي الذي يوجه سلوكه من داخله في مختلف المجالات الاجتماعية‏.‏ وتعد صيغة التوقعات المتبادلة هي الصيغة الرابعة التي توجد بها القيم وتؤدي فاعليتها في المجال الاجتماعي‏.‏ وتعني صيغة التوقعات المتبادلة أن الأفراد وهم يتفاعلون مع بعضهم يتوقعون سلوكيات بعضهم البعض لأنهم يؤدون هذه السلوكيات بالنظر إلي قيم مشتركة ومتفق عليها‏.‏ ومن الطبيعي أن تلعب هذه الصور الأربعة دورها في ضبط سلوك الأفراد‏,‏ إما من حيث وجودها كمعاني رمزية وموجهات عامة وإما من خلال كونها تقاليد وأعراف ومعايير تضبط التفاعل الاجتماعي‏.‏ أو من خلال ضمائرنا الفردية الموجهة لسلوكياتنا‏,‏ أو علي هيئة أن سلوك كل منا محكوم بتوقعات الأخر عنه‏,‏ ومن ثم نجده يتصرف في غالب الأحيان وفقا لهذه التوقعات‏.‏

فإذا حاولنا التعرف علي مصادر القيم في المجتمع فسوف نجد أن هناك أربعة مصادر أساسية‏.‏ ويشكل الدين في أي مجتمع من المجتمعات قاعدة الثقافة ومنظومات القيم‏.‏ فالحلال والحرام الديني هو في الغالب الصواب والخطأ الثقافي‏,‏ ومن ثم فكلما كانت المعاني الدينية متجددة كلما كانت الثقافة أقل محافظة وأكثر ميلا لإستيعاب ما هو جديد‏.‏ وإذا كانت الثقافة ذات طابع متجدد علي هذا النحو‏,‏ فإنها بذلك تلعب دورا أساسيا في إمتلاك المجتمع لقدر واضح من العافية والصحة الثقافية‏.‏ ويشكل التراث الثقافي المصدر الثاني لثقافة المجتمع ومنظوماته القيمية‏.‏ هذا التراث ينتقل إلي المجتمع عبر تتابع الأجيال‏,‏ غير أن هذه الثقافة التراثية وإن إنحدرت لنا من الماضي‏,‏ إلا أنها تكتسب حيوية إذا أعيد إنتاجها من خلال التفاعل الاجتماعي القائم والمعاصر‏,‏ وهو التفاعل الذي يتولي تعديل بعض جوانبها‏,‏ قد يحذف منها أو يضيف إليها‏.‏ ويشكل التفاعل الاجتماعي الذي يشارك فيه البشر في المجتمع المصدر الثالث للثقافة‏,‏ وإلي جانب أن التفاعل يعدل من الثقافة التي تنحدر إلينا من الماضي‏.‏ غير أن هناك بعض القيم والقواعد التي تظهر أيضا من خلال تفاعل البشر مع بعضهم البعض‏,‏ وهنا نجد أن التفاعل الاجتماعي إلي جانب أنه يتولي إعادة إنتاج الثقافة فإنه يتولي إنتاج بعض القيم كذلك‏.‏ وتشكل الثقافة الواردة إلينا من الخارج المصدر الرابع لثقافة المجتمع‏,‏ فنحن الأن في عصر وعالم الفضاءات الثقافية المفتوحة‏,‏ حيث تنتقل الثقافات وتتحرك منظومات القيم بلا حواجز‏,‏ ومن الطبيعي أن تخترق بعض القيم الوافدة الخارج ثقافة المجتمع‏.‏ وفي هذه الحالة فإذا كانت ثقافة المجتمع تمتلك القوة والعافية‏,‏ فإنه يكون بإمكانها هضم العناصر الثقافية الوافدة بما يقوي بنيتها‏,‏ أما إذا كانت ثقافة المجتمع ضعيفة فإن العناصر الثقافية الوافدة هي التي تولي إعادة تشكيل هذه الثقافة الضعيفة وفق طبيعتها‏.‏

أولا‏-‏ الثقافة علي خلفية التحولات الاجتماعية‏:‏

أشرنا إلي أن الثقافة تلعب دورا محوريا في ضبط التفاعل الاجتماعي الحادث في المجتمع‏,‏ وعلي ذلك فسلامة المجتمع من سلامة ثقافتة‏,‏ وذلك لأنه إذا كانت الثقافة ضابطة لتفاعل المجتمع‏,‏ فإن المجتمع بدوره يعيد إنتاج الثقافة من خلال مؤسساته وأيضا من خلال المجالات التي يتم علي ساحاتها التفاعل الاجتماعي‏.‏ من هنا فإنه إذا عجزت مؤسسات المجتمع عن إعادة إنتاج الثقافة فإن الثقافة في هذه الحالة تتخلف عن ضبط التفاعل الاجتماعي‏,‏ أو أن هذه القيم الثقافية تتآكل أو تصبح غير ملائمة للتفاعل علي الحادث في حاضر المجتمع‏.‏ بيد أننا إذا تأملنا منظومة القيم علي خلفية التحولات الاجتماعية الحادثة في المجتمع‏.‏ فإننا نجد أن التفاعل بين القيم والتحولات الاجتماعية الاقتصادية تحكمه الإعتبارات التالية‏.‏

ويتمثل الإعتبار الأول في أن التحول يعبر عن علاقة جدلية بين الإختيارات الأيديولوجية للنظام السياسي وبين ثقافة المجتمع ومنظوماته القيمية‏.‏ وتتمثل الحالة النموذجية لهذه العلاقة في ضرورة أن تكون أيديولوجيا النظام السياسي منبثقة من رحم ثقافة المجتمع‏.‏ وهو ما حدث في المجتمعات التي قطعت شوطا علي طريق التحديث‏,‏ سواء المجتمعات الغربية‏,‏ أو حتي المجتمعات الإسلامية كما حدث في التجربة الماليزية‏.‏ إما إذا تعارضت أيديولوجيا النظام السياسي مع ثقافة المجتمع فإن ذلك من شأنه يضر كثيرا بمعدلات إنطلاق التحديث‏.‏ لأن الأيديولوجيا لا تكون متجذرة أو مستوعبة حينئذ في شخصيات البشر‏,‏ ومن ثم لا تكون قادرة علي تعبئة البشر ودفعهم في إتجاه تحمل أعباء التحديث‏.‏

ويتمثل الإعتبار الثاني في أن الأنظمة السياسية التي تؤسس التحولات تفشل أحيانا في تاسيس المؤسسات التي تتولي تنشئة البشر وفق أيديولوجيا النظام السياسي‏,‏ وكذلك تنشئتهم وفق ثقافة المجتمع‏.‏ إذا حدث ذلك فإن التحول ينتهي بمبادئ أيديولوجية ضعيفة‏,‏ وكذلك بقيم ثقافية هزيلة بحيث نجد التحول نفسه في مواجهة حالة‏'‏ الأنومي‏'‏ أي ضعف المعايير الاجتماعية أو إنهيارها‏.‏ وإذا تأملنا الأوضاع في الواقع المصري فسوف نجد أن الأنظمة السياسية المتتابعة لم تحاول أن تؤسس مؤسسات التربية الأيديولوجية‏.‏ يضاف إلي ذلك إنهيار مؤسسات التنشئة الثقافية‏'‏ الأسرة‏,‏ المدرسة‏'‏ في مرحلة الإشتراكية والليبرالية‏,‏ بحيث ظلت الأيديولوجيات فوقية لم تتغلغل إلي نفوس البشر‏,‏ وبدأ الضعف والإنهيار من ناحية مقابلة في بنية الثقافة‏.‏

ويتمثل الإعتبار الثالث‏,‏ في أننا إذا تأملنا منظومات القيم في مرحلتي التحول الإشتراكي أو التحول الليبرالي‏,‏ فإننا سوف نجد ذات منظومات القيم وإن بمساحات متباينة في التحولين‏.‏ ذلك بالإضافة إلي وجود عدة منظومات للقيم في كل تحول دون أن تنصهر في بوتقة واحدة لتشكل بنية ثقافية قوية ومتعافية‏.‏ ونتيجة لذلك إنتهت التحولات الاجتماعية الإقتصادية بثقافة منهارة وقيم ضعيفة‏,‏ بحيث أصبح سلوك غالبية البشر في الساحة المصرية مترديا وأنانيا وعشوائيا وغير موجه في غالب بمنظومة قيم سوية وقوية‏,‏ الأمر الذي أدي إلي إنتشار السلوكيات الإنحرافية العديدة سواء الإنحراف الاجتماعي أو الإنحراف الأخلاقي‏,‏ ونعرض فيما يلي لقصة هذا الإنهيار الثقافي‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://social.alafdal.net
د. فرغلى هارون
المدير العـام

د. فرغلى هارون


ذكر عدد الرسائل : 3278
تاريخ التسجيل : 07/05/2008

تحولات الثقافة ومنظومات القيم في مصر Empty
مُساهمةموضوع: رد: تحولات الثقافة ومنظومات القيم في مصر   تحولات الثقافة ومنظومات القيم في مصر Empty15/12/2008, 11:29 pm

ثانيا‏-‏ منظومة القيم في ظل التحول الإشتراكي‏:‏
علي نحو ما أشرت تلعب الثقافة ومنظومات القيم دورا محوريا في تنظيم التفاعل الاجتماعي في المجتمع‏.‏ حيث تشكل القيم الإطار الذي يربط أفراد المجتمع ببعضهم البعض‏.‏ وإذا كان الأفراد متباينين بطبيعتهم فإنهم لكي يشكلوا مجتمعا فإنه من الضروري اتفاقهم حول منظومة قيمية محددة‏,‏ وهي القيم التي تشكل مرجعية عقدهم الاجتماعي لقيم المجتمع‏.‏ ومن ثم فانهيار قيم المجتمع أو حتي ضعفها سوف يعني ارتداد البشر إلي مصالحهم الفردية‏,‏ وقيمهم الفردية التي تبرر هذه المصالح‏.‏ إضافة إلي شرور وانحرافات كثيرة تظهر علي ساحة المجتمع وتعد مؤشرا علي انهيار منظومته القيمية التي تعد بدورها مقدمة الانهيار‏.‏ وإذا كان من الطبيعي أن يكون لكل تحول منظومته القيمية التي تحدد اتجاهه وتدفع حركته وتنظم التفاعل الحادث بين عناصره‏,‏ فإننا إذا تأملنا المشهد الثقافي في الفترة من‏1952‏ حتي‏1970‏ فسوف نجد بداية أن المجتمع المصري دخل عقد الخمسينيات وهو يمتلك منظومة قيمية غير متماسكة‏,‏ تشكل المرجعية الأساسية‏,‏ للمجتمع‏,‏ بحيث إننا إذا تأملنا هذه المنظومة فسوف نجد أنها تضم أربعة عناصر أساسية‏.‏

أ‏-‏ ويتمثل العنصر الأول في التراث الديني القوي الذي ترسب علي طبقات في بنية الشخصية المصرية‏,‏ حيث يشكل التراث الديني الفرعوني الطبقة الأولي التي شكلت الطاقة الدافعة لبناء هذه الحضارة ذات القاعدة الدينية الواضحة‏.‏ وبرغم تنوع الدين في حقب الحضارة الفرعونية المتتابعة إلا أنها اشتركت في التأكيد علي الدين باعتباره عنصرا قاعديا في بنية الشخصية والحضارة المصرية‏.‏ وتشكل الديانة القبطية الطبقة الثانية التي شكلت مزجا رائعا بين المسيحية والطبيعة المصرية أو تمصير المسيحية‏,‏ ومن ثم فقد شكلت المسيحية امتدادا للتراث الديني الذي تجدد بتسامح المسيحية‏.‏ ثم جاء الإسلام ليشكل طبقة ثالثة تضيف إلي التسامح المسيحي في مثاليته‏,‏ عقلانية وتوازنا في التفاعل وواقعية‏.‏ وبرغم أنها طبقات دينية متعددة إلا أنها تدعم روحا واحدة هي روح التدين‏.‏ ذلك أن المشاهد الدينية واحدة برغم التنوع‏.‏ فمقابر الفراعنة والمومياوات وهامات أجراس الكنائش ومآذن المساجد‏.‏ صور‏'‏ العذراء‏'‏ ومعلقات‏'‏ آيات القرآن‏'‏ تثير كلها في النفس ذات العواطف الدينية‏.‏ من هنا شكلت القيم الدينية قاعدة للثقافة المصرية‏,‏ فالحلال والحرام الديني هو أساس الصواب والخطأ الثقافي‏.‏ وأصبح التراث الديني هو دائما المرجعية التي يقاس بالنظر إليها قبول أو رفض أي منظومات قيمية أخري‏.‏ فالدين متجذر في التاريخ‏,‏ والدين أيضا متدفق في المعاصرة لأن النسبة الغالبة من السكان متدنية بالأساس‏.‏ لذلك أصبح الدين آلية من آليات النضال كما هو آلية من آليات التكيف‏,‏ آلية من آليات الدفع باتجاه العمل والإنتاج‏,‏ كما هو آلية من آليات الاستمتاع بالحياة‏.‏ ولقد تضافرت منظومة القيم العربية مع المنظومات الدينية‏,‏ فاللغة العربية هي لغة القرآن حتي المسيحيون يتحدثون ذات اللغة‏,‏ ومن خلال اللغة تسربت ثقافة القبيلة العربية التي تتناقض بعض قيمها مع بعض القيم الدينية الإسلامية وإن شكلت القيم الدينية المرجعية الأساسية‏.‏ بحيث نجدها قد لعبت دورا في النضال من أجل الحصول علي الاستقلال‏.‏

ب‏-‏ وقد شكلت منظومة القيم الليبرالية التي جاءت مع المستعمر المنظومة الثانية في هذا الصدد‏,‏ وبرغم أن هذه القيم لعبت دورا أساسيا في التطور الغربي إلا أنها عندما انتقلت إلينا شوهت واختزلت‏.‏ فقد فهمت الليبرالية في بعض الدوائر الارستقراطية علي أنها تحرر نسبي من منظومة القيم والأخلاق‏.‏ وحينما مورست علي الصعيد السياسي أقتصر تداولها بين الأحزاب التي تتشكل من النخبة‏,‏ ومن ثم فقد استبعدت مشاركة الجماهير التي غرقت في لجة الأمية‏,‏ ثم كيف تكون ليبرالية في ظل وجود قهر استعماري‏!!.‏ ولأنها كانت ليبرالية هشة فقد كان من السهل ضربها‏,‏ أولا لأن القيم التي عرفت بها علي الصعيد القومي كانت مضادة لمنظومة القيم العربية والدينية‏,‏ وهذا أضعفها من أسفل‏,‏ وثانيا لأنها كانت ثقافة وأيديولوجيا المستعمر والطبقة الأرستقراطية التي تعاملت معه‏,‏ بحيث أنه حينما خرج الاستعمار‏,‏ وحينما قلمت أظافر أو قصت أجنحة الطبقة الأرستقراطية فيما بعد‏1952‏ انسحبت هذه المنظومة القيمية من الواقع المصري‏,‏ برغم أنها قد حققت بعض الإنجازات الاقتصادية في الثلاثينيات والأربعينيات‏.‏ بحيث يمكن القول بأن انسحاب القيم الليبرالية تضافر فيما بعد‏1952‏ مع إجبار الطبقة العليا المصرية والأجنبية علي الانسحاب من علي المسرح القومي‏.‏ وبرغم انسحاب قواعد هذه المنظومة القيمية من علي الساحة‏,‏ فقد بقيت بعض عواطفها ومفرداتها القيمية في الفضاء العام للمجتمع‏.‏

ج‏-‏ وقد شكلت منظومة القيم الاشتراكية المنظومة القيمية الثالثة التي اتسعت مساحتها تدريجيا فيما بعد‏1952.‏ حقيقة أن الحديث عن الاشتراكية قالت به بعض أفراد صفوة الثلاثينيات والأربعينيات كالمفكر الاشتراكي‏'‏ سلامة موسي‏'‏ وجماعة‏'‏ الماركسيين الاشتراكيين‏'‏ الذين قدموا مشروعات للإصلاح الزراعي والاجتماعي قبل الثورة‏.‏ غير أنه بسبب انتماء غالبية أعضاء الصفوة الثورية إلي النصف الأدني من الطبقة المتوسطة فإن عواطفهم كانت اشتراكية بالأساس‏,‏ ومن ثم فقد كانوا في إصلاحاتهم الواقعية ملهمين بهذه العواطف‏.‏ وحينما ضربت تجربة الوحدة العربية الأولي بواسطة القوي الليبرالية‏,‏ العالمية والقوي المتحالفة معها‏,‏ فإنه كان من الطبيعي أن تندفع الصفوة الثورية كرد فعل إلي مزيد من الاستغراق في تبني منظومة القيم الاشتراكية كمنظومة قيمية مضادة للقيم الليبرالية‏.‏ وأجهد المثقفون والمنظرون أنفسهم في هذه الفترة في البحث عن رابطة عضوية بين منظومة القيم الإسلامية والمسيحية العربية كمنظومة مرجعية وبين القيم الاشتراكية‏,‏ وفي هذا الإطار برزت دعاوي وشعارات كثيرة تؤكد علي هذه العلاقة‏'‏ كاشتراكية الإسلام‏'‏ و‏'‏الاشتراكيون أنت إمامهم لولا دعاوي القوم والغلواء‏'‏ ويقصد سيدنا محمد‏(‏ عليه الصلاة والسلام‏),‏ والناس شركاء في ثلاثة الماء والكلأ والنار‏,‏ وكثر الحديث عن‏'‏ أبي ذر الغفاري‏'‏ كصحابي فقير اعتبر مبشرا أسبق بالاشتراكية‏,‏ وفي ذات الوقت برزت قيادات اشتراكية مسيحية مثل‏'‏ سلامة موسي وميشيل عفلق‏'.‏

وقد تحققت إنجازات كثيرة في ظل التوجهات الاشتراكية في المجال الزراعي والصناعي ومجال الخدمات‏,‏ استفادت منها أغلبية المجتمع وبخاصة الطبقة الوسطي والدنيا‏,‏ ولم ترفضها منظومة القيم العربية ولا الدينية لأنها تسعي إلي تأسيس نوعية حياة إن لم يباركها الدين فهو لا يرفضها‏.‏ غير أن هذه المنظومة القيمية أو الأيديولوجية فتحت المجتمع علي قيم تسربت إلي داخله من خلال الإعلام والمسرح والصحافة‏,‏ فأوهنت بعض القيم الأخلاقية المنحدرة إلينا من التراث‏.‏ كما أضعفت أو لم تول اهتماما كافيا لآليات التنشئة وفق القيم العربية وكذلك قيم التراث الديني‏.‏ ونتيجة لذلك بدأت هذه القيم تتراجع قليلا‏.‏ يضاف إلي ذلك أن التعليم في مراحله المتتابعة قلص المضامين الدينية التي كانت تشارك في تنشئة الأبناء وفق القيم الدينية والتراثية‏.‏ إلي جانب ذلك لعبت تكنولوجيا الإعلام الحديث والمتمثل في التليفزيون دورها في التنشئة وفق قيم غير دينية‏,‏ الأمر الذي أدي في النهاية إلي تقليص منابع التنشئة حسب قيم التراث‏,‏ دينيا كان أم عربيا‏,‏ وهو ما أضعف تأثير منظومة القيم التراثية نسبيا‏.‏ في مقابل ذلك ورغم التأكيد علي أيديولوجيا التنمية الاشتراكية‏,‏ وبرغم الانجازات الواقعية التي تحققت في واقع المجتمع تجسيدا للشعارات الاشتراكية‏,‏ فإن القيم المتضمنة في هذه الأيديولوجيا لم تؤسس حينئذ مؤسسات اجتماعية تتولي تنشئة البشر وفقا لقيمها‏.‏ اللهم إلا مؤسسات هشة كالتنظيم الاشتراكي الوحيد الذي امتطي صهوته الانتهازيون من أبناء الطبقة المتوسطة‏,‏ إضافة إلي بعض المعاهد التي تولت تدريب بعض الشباب علي بعض الشعارات الاشتراكية دون استيعاب القيم الكامنة وراءها‏,‏ واستبعدت الجماهير بتراثها من التنشئة وفق القيم الاشتراكية‏.‏

د‏-‏ بروز منظومة القيم الانتهازية نتيجة للتحولات الاجتماعية التي تحققت خلال مرحلة التحول الاشتراكي بإعتبارها عنصرا بدأ يظهر في بناء أخلاق الطبقة المتوسطة حيث اتجهت هذه الطبقة بقوة إلي الحراك الاجتماعي من خلال قنواته العديدة وأبرزها التعليم‏.‏ وقد كان من المنطقي نتيجة لذلك أن تبدأ بعض شرائح الطبقة المتوسطة في التخلي عن أخلاقها التي عرفت بها لأسباب عديدة‏.‏ من هذه الأسباب أن الإنسان في حراكه الاجتماعي يستوعب توجهات مرنة فيما يتعلق بالقيم حسبما عالم الاجتماع بيترم سروكين‏.‏ فهو يتحرك عبر سياقات اجتماعية عديدة‏,‏ وفي كل سياق يترك قيما سابقة ليتعامل بقيم السياق الجديد‏.‏ هو إنسان فندقي‏HotelMan‏ حينما يحط ترحاله فإنه يتعامل بقيم السياق الذي حط فيه‏(2).‏ لذلك فالقيم تتحول لديه من غايات يسعي إلي تحقيقه إلي وسائل تساعده في الإنجاز وتحقيق التكيف‏.‏

في هذا الإطار تبرز أربع فرضيات تحاول تفسير انهيار أخلاق المجتمع ومن ثم انهيار أخلاق الطبقة المتوسطة‏.‏ ويستند الافتراض الأول إلي تنظير النقد الاجتماعي الذي يري أن كل طبقة في صعودها الاجتماعي من الممكن أن تتبني أيديولوجيات وتوجهات راديكالية‏,‏ فإذا بلغت غايتها وشغلت مراكزها فإنها تسعي للحفاظ عليها ومن ثم نجدها تتبني قيما محافظة‏.‏ وفي ذلك يذهب س‏.‏ رايت ميلز في مؤلفه الخيال السوسيولوجي إلي القول أن القيادات الطلابية في عقود تاريخية سابقة هم شاغلو مراكز السلطة والمناصب الجامعية الحالية في مرحلة تاريخية تالية‏.‏ ويرجع ذلك إلي أن الحراك الاجتماعي يولد لدي الإنسان قدرة علي التخلي عن منظومة القيم التي لديه واكتساب قيم جديدة تتلاءم مع الظروف أو السياق الجديد‏.‏ وكلما اندفع الحراك الاجتماعي رأسيا أو أفقيا‏,‏ كلما كان ممكنا أن يتخلي المتحركون عن منظومة قيمهم واكتساب قيم وثقافة جديدة‏,‏ الأمر الذي يضعف في النهاية لديهم بعد الالتزام القيمي‏,‏ ومن ثم تتولد لديهم حالة من المرونة القيمية تيسر لهم التكيف مع أي قيم ومع أي مبادئ‏.‏

ويتصل الافتراض الثاني‏,‏ الخاص بحالة منظومة قيم الطبقة المتوسطة أثناء حراكها الاجتماعي‏,‏ بمفهوم الافتراضات القاعدية الذي قدمه عالم الاجتماع المعاصر‏'‏ ألفن جولدنر‏'.‏ حيث ذهب إلي القول بأن للإنسان علاقة بثلاثة أنماط من الافتراضات القاعدية‏Back-groundAssumption‏ وهي الافتراضات التي تنمو مع الإنسان ويكتسبها من خلال التنشئة الاجتماعية في سياق اجتماعي وثقافي محدد‏.‏ وافتراضات المجال‏DomainAssumption‏ وهي الافتراضات التي يري أن التفاعل الاجتماعي المحيط به محكوم بها‏,‏ ثم الفروض أو القضايا‏Propositions‏ التي تشكل وجهة نظره في الحياة‏.‏ وبطبيعة الحال فإن وجهة النظر هذه تستند بالأساس إلي الافتراضات القاعدية وافتراضات المجال‏.‏ ومن ثم فتغيير الإنسان بحكم حراكه الاجتماعي لأوضاعه وسياقاته الاجتماعية من شأنه أن يؤدي إلي تغيير افتراضاته القاعدية‏,‏ ومن ثم افتراضات المجال‏,‏ الأمر الذي يدفع به إلي تغيير وجهة نظره في كل ما يحدث حوله‏.‏ فليس لديه التزام محدد بوجهة نظر ثابتة‏(3)‏ مما يخلق لدي الإنسان المتحرك حالة من عدم الإلتزام القمي والأخلاقي الثابت‏,‏ فالالتزام دائما بالقيم التي تحقق له قدرة تكيفية عالية مع موضوعات الموقف المحيط‏.‏

وتطرح نظرية التبادل افتراضا ثالثا يفسر حالة الأنومي الأخلاقية التي أصابت الطبقة المتوسطة‏.‏ حيث تذهب نظرية التبادل إلي القول بأن البشر في تفاعلاتهم الاجتماعية يتبادلون قيما‏.‏ في هذا الإطار يستند التبادل المستقر إلي تساوي القيم التي تشكل مضمون التبادل‏,‏ سواء كانت قيما مادية أو معنوية‏.‏ غير أنه إذا أجزل أحد أطراف التبادل العطاء للطرف الآخر دون إصرار علي أن يحصل علي المقابل‏,‏ فإن ذلك من شأنه أن يدفع الطرف الآخر إلي تقليص القيم التي يدفعها في عملية التبادل‏,‏ ومن ثم يظهر ما يمكن أن يسمي بالتبادل غير المتوازن‏.‏ في إطار هذا التبادل غير المتوازن نجد أنه كلما أجزل طرف العطاء دون الإصرار علي المقابل بنفس القيمة‏,‏ فإن ذلك يدفع الطرف الآخر إلي تقليص المقابل المدفوع بدرجة أكثر‏,‏ طالما أنه قد ضمن الحصول علي ما يريد دون أن يدفع المقابل‏.‏ وتستمر هذه الحالة من التفاعل أو التبادل حتي نصل إلي تحقق حالة يمكن أن نسميها بحالة التبادل الصفري‏.‏ حيث يدفع أحد الأطراف كل شيء‏,‏ بينما لا يحصل علي شيء في المقابل من الطرف الآخر‏(4)‏ هكذا كانت علاقة الدولة بالطبقة المتوسطة‏,‏ أجزلت لها العطاء من كل اتجاه دونما إصرار علي الحصول منها علي المقابل‏,‏ وهي الحالة التي دفعت هذه الطبقة إلي تبني عادة الأخذ دون العطاء‏,‏ الأمر الذي أضعف بداخلها القيم الإنسانية وأسقط منها التزامها الأخلاقي‏.‏

وتبرز الفرضية الرابعة لتفسير سلوك هذه الطبقة من الاستجابة لحالة‏'‏ الأنومي‏'‏ أي أفتقاد المعايير التي قد يعاني منها أي مجتمع من المجتمعات‏.‏ وإذا كان نظام يوليو قد طرح منظومة قيمية أكد في إطارها علي السعي من أجل الرفاهية والتأكيد علي المثل وعلي قيم الإنجاز‏.‏ فإن واقع الأحداث انتهي إلي ما يشهد بعكس ذلك والأمثلة علي ذلك كثيرة‏,‏ فقد واجه النظام في‏1967‏ هزيمة مدوية قضت علي الأخضر واليابس‏,‏ وهي الهزيمة التي أبرزت هشاشة النظام بدلا من تأكيد قوته‏,‏ إضافة إلي بروز أخطاء في منطقة‏,‏ كتفضيل أهل الثقة علي أهل الخبرة‏,‏ فرض القهر الأمني علي البشر‏,‏ فآلة النظام كانت قوية وباطشة‏.‏ في هذه الحالة تتولد استجابات رافضة ابتداء من الانسحاب السلبي الكامل ونهاية بالتمرد وحتي العنف الإيجابي‏.‏ ويعد التجديد في الوسائل دون الغايات منطقا حكم حكم السلوك في هذه المرحلة‏,‏ حيث السعي لتحقيق الغايات بغض النظر عن شرف الوسائل‏.‏ فالغاية التي تبرر الوسيلة تعد أحد الاستجابات التي يتبناها البشر للتكيف مع واقعهم المحيط‏,‏ فالميكافيلية أو الانتهازية تعني أن نحقق أهدافنا بغير الوسائل والسبل التي يقرها المجتمع‏(5).‏

لقد شكلت هذه الفرضيات جميعها تطوير منظومة قيمية شكلت مرجعية لتوجيه السلوك الانتهازي‏,‏ الذي التزم به أغلبية أبناء الطبقة المتوسطة‏,‏ بخاصة هؤلاء الذين نجحوا في تحقيق حراك تعليمي واسع‏.‏ مظاهر هذا السلوك الانتهازي كثيرة‏,‏ فهم في البداية قد انفصلوا عن إطارهم الاجتماعي الذي ولدوا فيه‏.‏ لأن التعليم أكسبهم قيما وثقافة ساعدت علي تفكيك روابطهم الاجتماعية والثقافية التقليدية‏,‏ بل تنكروا لها أحيانا‏,‏ حتي قيل أن القرية المصرية التي تعلم أولادها تجعل منهم أعداء لها‏.‏ وهم أيضا الذين تسلطوا وتسلقوا التنظيمات السياسية ابتداء من هيئة التحرير إلي الاتحاد القومي إلي الاتحاد الاشتراكي برشاقة وقدرة بهلوانية منقطعة النظير‏.‏ وهم الذين استغلوا نفوذهم في الوظائف الإدارية العليا بجهاز الدولة أو في القطاع العام‏,‏ فحولوا نفوذهم إلي رأسمال اقتصادي شكل خميرة رأسمالية‏,‏ بحيث أصبحوا هم عمد أيديولوجيا وسياسات الانفتاح بعد ذلك‏,‏ ابتداء من السبعينيات‏.‏ وهم الذين حولوا الوظائف العامة إلي مصادر للدخل الخاص‏,‏ بحيث تحول الوطن الذي منحهم الكرامة إلي فريسة علي مائدة اللئام‏.‏ وحينما مات الزعيم الاشتراكي العظيم وانطوت معه صفحات التجربة الاشتراكية لم تنظر هذه الطبقة بأسي إلي الماضي الاشتراكي‏,‏ لم تذرف دمعا حقيقيا عليها‏.‏ وحينما قدم لها زعيم لاحق وعودا بالترف والرفاهية صفقت للعهد الجديد وسعت مهرولة تقدم ولاءها له‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://social.alafdal.net
د. فرغلى هارون
المدير العـام

د. فرغلى هارون


ذكر عدد الرسائل : 3278
تاريخ التسجيل : 07/05/2008

تحولات الثقافة ومنظومات القيم في مصر Empty
مُساهمةموضوع: رد: تحولات الثقافة ومنظومات القيم في مصر   تحولات الثقافة ومنظومات القيم في مصر Empty15/12/2008, 11:32 pm


ثالثا‏-‏ بناء الثقافة ومنظومات القيم في إطار التحول الليبرالي‏:‏
من الطبيعي ان يحتاج التحول الاجتماعي الليبرالي إلي منظومة من القيم والمبادئ التي تشكل الأيديولوجيا التي توجهه من ناحية‏,‏ والتي تضفي عليه شرعية من ناحية ثانية‏.‏ وإذا كان التحول الاجتماعي السابق في الفترة الاشتراكية قد تميز بالتماسك وإن تكالبت عليه النوائب‏,‏ فإن التحول الاجتماعي الجديد قد أصيب بمرض التفكك وتمزق الأنسجة‏,‏ وذلك بسبب طول فترة التحول دونما إنجازات ملموسة أو محددة علي نحو ما حدث في التحول الأول‏,‏ وهي الحالة التي ترجع في بعض أسبابها إلي تجانس ثقافته التي تضمنت منظومات قيميه بلغت حد التناقض‏.‏

أ‏-‏ وتعد منظومة القيم الليبرالية هي المنظومة الثقافية الأولي في هذا الصدد‏.‏ وإذا كانت الطبقة المتوسطةقد قادت نضالها من العشرينيات وحتي قيام ثورة يوليو‏1952‏ في ظل القيم الليبرالية‏,‏ وهو الأمر الذي أعاقها نسبيا عن استيعاب القيم الاشتراكية خلال عقدي الخمسينيات والستينيات‏.‏ فإن استدعاء هذه القيم ثانية مع منتصف السبعينيات لم يتسنفر أية مقاومة تذكر‏,‏ اللهم إلا من بعض الفلول الناصرية والماركسية‏.‏ خاصة أن المرحلة الناصرية شهدت كبوة في نهاية الستينيات هبطت بمعدلات النمو إلي‏2.5%‏ بالسالب‏,‏ وهو ما يعني في الحقيقة تراجعا‏.‏ خاصة أن النظام السياسي الجديد الذي بدأ مع بداية السبعينيات‏-‏ صور الليبرالية حينئذ باعتبارها المنقذ في سياق أصبح البشر المنتمون لشرائح الطبقة المتوسطة والدنيا‏,‏ يعانون من ظروف معيشية صعبة‏,‏ إضافة إلي أن القيم الإسلامية وهي القيم القاعدية في المجتمع لا تتناقض جوهريا مع القيم والتوجهات الليبرالية‏.‏

ب‏-‏ وتشكل القيم الدينية المنظومة الثانية التي شكلت المكون الثاني في هذه المرحلة‏.‏ وإذا كانت بعض عناصر الطبقة المتوسطة قد تعلقت بأستار الدين استحماء من القيم الليبرالية‏,‏ التي بدأت تتحيز لتبرر مصالح الطبقة العليا‏.‏ فإنه في بداية صدمة التحول بدأت بعض شراذم الطبقة المتوسطة تتطرف ببعض قيم الدين‏,‏ والاستعانة بها للتكيف مع واقع بدأ يشهد سحب امتيازاتها الواحد تلو الآخر‏,‏ أو لتحتج بها علي تحولات غير مواتية لصالحها‏.‏ ومن ثم فقد حدث هروب إلي الدين علي الصعيد الإسلامي والمسيحي علي السواء‏.‏ وأمام سحب الامتيازات كان هناك انسحاب إلي الدين‏,‏ اتخذ أحيانا شكل الاحتجاج والعنف والتطرف الذي قامت به بعض الجماعات لعنفها‏.‏ غير أنه حينما واجهت بعض الجماعات المتطرفة قمعا من قبل النظام السياسي‏,‏ ورفضا لعنفها من قبل شرائح الطبقة المتوسطة الأخري‏,‏ والمجتمع بكامله‏,‏ فإننا نجدها قد اتجهت إلي الالتزام بروح الإسلام المعتدلة‏.‏ وتعمق التزامها بقيم الدين في مواجهة المتاعب التي بدأت تفرض علي نوعية حياتها‏,‏ بحيث تحول في سنوات محدودة إلي قيادة نوعية حياة إسلامية‏.‏ كما اتضح ذلك من اتساع انتشار الحجاب وليس النقاب بين النساء وبخاصة طالبات الجامعة من أبناء الطبقة المتوسطة‏,‏ كذلك زيادة التردد علي المساجد أو الاتجاه إلي التدرب علي قراءة القرآن الكريم وتجويده وحفظه‏.‏ وهو الأمر الذي وجد استجابة إعلامية من قبل بعض القنوات الفضائية التي تخصصت في البث الإسلامي‏,‏ وبدأت الدائرة تدور في اتجاه دعم منظومة القيم الإسلامية المعتدلة‏,‏ بحيث أصبح لها وجودها القوي‏,‏ الذي من الصعب الخروج عليه أو الوقوف أو العمل في مواجهته‏.‏

علي الصعيد المسيحي حدث نفس الأمر تقريبا‏,‏ هروب إلي الدين ففيه السلوي من معاناة الحياة ومثلما امتلأت المساجد امتلأت الكنائس كذلك‏,‏ وبرزت روح المحافظة علي طقوس الدين‏.‏ واستطرادا لذلك بدأت المؤسسات الدينية تعمق روح الدين عند الكافة‏,‏ وبدأت كل جماعة تتراجع إلي حدود الالتزام بدينها‏.‏ وقد كاد ذلك أن يؤدي إلي ظهور الحدود بين الجماعات علي أساس الدين‏,‏ وهدد بحدوث انسحاب نسبي من قيم المواطنة‏,‏ الأمر الذي أضعف المرجعية المشتركة لحساب المرجعيات المنفصلة‏.‏ ونتيجة لذلك تفجرت صراعات دينية لا ترجع إلي اختلافات فاختلافات الدين موجودة طيلة التاريخ‏,‏ ثم أن أي من هذه الأديان لا يرفض الآخر‏-‏ الدين بقدر ما ترجع إلي حالة‏-‏ الأزمة التي تتعرض لها الطبقة المتوسطة‏.‏

ج‏-‏ وتعد الثقافة الاستهلاكية من المنظومات القيمية التي تخلقت عبر هذه المرحلة‏,‏ فقد انفتح المجتمع علي الصعيد الخارجي وتدفقت سلع الاستهلاك عبر الأبواب المفتوحة‏,‏ وبدأت قيم وثقافة الاستهلاك والاسترخاء تنتشر‏,‏ وترافق ذلك مع سياسات الدولة التي اتجهت إلي الانفتاح السياسي‏.‏ وارتباطا بذلك شيدت مدن الاسترخاء والمصيف وليس قلاع أو مدن الصناعة‏,‏ وأخذت الصفوات تتدفق باتجاه الاستهلاك‏,‏ نتيجة لعجز الدولة عن بناء قنوات الاستثمار التي تستوعب مدخرات المدخر الصغير‏.‏ وقد تضافر مع ذلك إنتشار ثقافة الاستهلاك التي تولي نشرها المهاجرون إلي مجتمعات الخليج‏.‏ لقد صهرتهم حرمانات الوطن‏,‏ وحينما هاجروا إلي مجتمعات اعتادت ثقافة الاستهلاك‏,‏ فإن هذه الثقافة بحرارتها العالية شكلتهم كمستهلكين جددا لديهم حالة من الشره العميق‏.‏ وإذا كانت الدخول العالية والثقافة الإستهلاكية في مجتمعات الخليج‏,‏ وحرماناتهم السابقة هي المسئولة عن توجه المهاجرين إلي الاستهلاك واعتناق ثقافتة‏.‏ فإن هؤلاء المهاجرون أو المستهلكون الجدد تقع عليهم مسئولية نشر ثقافة الاستهلاك في المجتمع‏,‏ لقد تكالبت ظروف عديدة لتقضي علي ثقافة الإنتاج والعمل التي لازمت مرحلة التحول الاشتراكي السابق‏,‏ لتحل محلها مرحلة جديدة تصبح فيها ثقافة الاستهلاك هي المرجعية الأساسية للسلوك‏.‏

د‏-‏ في هذه الفترة ومع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات وقع تطورين هامين‏,‏ يتمثل التطور الأول في تطور تكنولوجيا الإعلام والمعلومات‏,‏ بخاصة الصادرة عن المراكز الرأسمالية‏.‏ بينما يتمثل التطور الثاني في سقوط الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة بالعالم‏,‏ باعتبارها القوة الأقوي في النظام العالمي‏.‏ والتي بدأت تنشر أو تعولم نمط نوعية حياتها والقيم المرتبطة بهذا النمط‏,‏ مستغلة بذلك تكنولوجيا الإعلام المتقدمة‏,‏ التي تساعد منظومتها القيمية علي اختراق المنظومات القيمية والثقافية الأخري‏.‏ وقد ساعد علي ذلك ضعف سيطرة الدولة القومية علي فضائها الثقافي‏,‏ ومن ثم فقد بدأت العولمة تدفع بمنظومة قيم ذات طبيعة خاصة‏,‏ تختلف إلي حد ما عن القيم الليبرالية‏.‏ فهي منظومة قيم تعكس نوعية الحياة الأمريكية بحلوها ومرها‏,‏ وتصطف علي متصل يتناقض طرفاه‏,‏ حيث يبدأ طرف المتصل من التأكيد علي الحرية والديموقراطية‏,‏ ويتحرك باتجاه التأكيد علي القيم المتعلقة ببعض الفئات الاجتماعية كالمرأة والمسنين والطفولة‏,‏ ويمر إلي المقابل والمناقض حيث التأكيد علي القيم المعنية بالزواج المتشابه‏(‏ الرجل برجل والمرأة بامرأة‏).‏ إضافة إلي الترويج لقيم الجنس تحت مظلة الحرية الواسعة‏,‏ التي بلغت حد التحرر من الأخلاق‏.‏ بعض هذه القيم‏'‏ المتعلقة بالحرية والديموقراطية مقبول‏',‏ بينما يرفض البعض الآخر من هذه القيم الأمر الذي يعني منظومة قيميه غير مرغوب فيها في فضاء المجتمع‏,‏ ترفضها منظومات القيم الأخري بما فيها المنظومة الليبرالية‏.‏

بالإضافة إلي ذلك وجدت منظومات قيمية ذات فاعلية محدودة وغير مؤثرة‏,‏ كبعض القيم التراثية التي تخلفت عن التفاعل الاجتماعي في المجتمع‏,‏ أو تدفقت من مراحل تاريخية سابقة إلي حاضرة‏.‏ بالإضافة إلي منظومة القيم الناصرية التي يقول بها بعض المثقفين‏,‏ خاصة أنها مازالت حية وقوية في الضمير الشعبي‏.‏ إلي جانب بعض القيم الاشتراكية التي تضيق لتقتصر علي حفنة محدودة من مثقفي الطبقة المتوسطة‏,‏ خاصة أنها أصبحت من خيالات الماضي‏,‏ وضاعت ملامحها من الذاكرة الشعبية‏,‏ وخاصة ذاكرة الطبقة المتوسطة‏.‏ ومن الواضح أن غالبية هذه المنظومات الثقافية ذات طبيعة متناقضة‏,‏ إضافة أن بعضها مفروض من الخارج بواسطة تكنولوجيا الإعلام والمعلومات‏.‏ كمنظومة القيم التي أتت بها العولمة وتكاد أن تمزق النسيج الاجتماعي لبعض الوحدات الاجتماعية في المجتمع‏,‏ وقد فعلت‏.‏ ذلك إلي جانب أن أي من المنظومات القيمية‏,‏ لم يتم استيعابها بداخل ببنية البشر باستثناء القيم الدينية ولذلك نجد أن غالبية السلوكيات الاجتماعية في المجتمع تقع عارية من توجيه قيمي متفق عليه‏,‏ أي أن هناك حالة من الفوضي في بنية الثقافة والقيم‏.‏ تؤكد جميعها أننا نعيش في نطاق حالة‏'‏ الأنومي‏',‏ أي انعدام المعايير‏,‏ التي بدأت بصورة محدودة في نهاية التحول الاشتراكي السابق‏,‏ إلا أنها أصبحت تملأ فضاء المجتمع خلال فترة التحول الليبرالي‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://social.alafdal.net
د. فرغلى هارون
المدير العـام

د. فرغلى هارون


ذكر عدد الرسائل : 3278
تاريخ التسجيل : 07/05/2008

تحولات الثقافة ومنظومات القيم في مصر Empty
مُساهمةموضوع: رد: تحولات الثقافة ومنظومات القيم في مصر   تحولات الثقافة ومنظومات القيم في مصر Empty15/12/2008, 11:36 pm


رابعا‏-‏ تأثير تحولات نصف قرن علي بيئة الثقافة ومنظومات القيم‏:‏
علي مدي نصف قرن جرت مياه كثيرة في نهر المجتمع‏,‏ فقد حدثت علي الصعيد الواقعي تحولات من الصعب أن يجود بها خيال‏.‏ فقد بدأ المجتمع منذ صباح ثورة يوليو‏1952‏ من مجتمع نقوده أيديولوجيا ليبرالية مشوهة‏,‏ إلي جانب منظومات قيمية مجاوره لم تندمج معها إن لم تعاديها‏.‏ فإذا بنا نعود بعد نصف قرن إلي مجتمع تقوده أيديولوجيا ليبرالية فاسدة‏,‏ إلي جانب منظومات قيمية تجاورها‏,‏ قد تختلف أو تتناقض معها‏.‏ تحركنا من مجتمع بدأ بطبقة عليا ذات سلوك أنني في غالبه‏,‏ وتتعايش مع البرجوازية العالمية‏,‏ إلي مجتمع تسيطر عليه الطبقة العليا ذاتها‏,‏ بعواطفها الأنانية ونزعاتها الفردية‏.‏ مجتمع بدأ بالثورة علي الفساد وتغيير القيم الفاسدة فإذا بنا ننتهي إلي مجتمع منتج للفساد متخلي عن القيم‏,‏ تعوق حالته عملية الإصلاح والتغيير‏.‏ وإذا كانت الأشواق قد ازدهرت في صدورنا مع بداية هذه التحولات‏,‏ التي أوحت لنا بأننا علي أبواب تأسيس مجتمع قوي وفعال وقادر علي إشباع الحاجات الأساسية للبشر‏,‏ بما يعمق مفاهيم المواطنة‏.‏ فإذا بنا نجد أنفسنا في العقد الأول من الألفية الثالثة بعد نصف قرن تقريبا وقد انطفأت الأشواق وانتكست الآمال‏,‏ وأصابتنا حالة من الحسرة علي الذي كان وذهب‏.‏ وكذلك علي القائم المتهرئ الذي لا نعرف كيف نوقظه ونستنفر مواضع الصمود فيه‏,‏ عل ذلك أن يكون مقدمة أو دعوة لمشروع اجتماعي يعيد إقامة وإستواء المجتمع‏,‏ ويتسدعي هوية أمة‏.‏ غير أن ذلك يتطلب تشخيص ما انتهت إليه منظومة الثقافة والقيم‏,‏ تمهيدا لاستكشاف السبل لأعادة بناء ثقافة تحتوي علي منظومات قيمية متماسكة‏.‏

يكشف تأمل الحصاد الثقافي أو القيمي الناتج عن التحولات الاجتماعية‏,‏ التي خضع لها المجتمع المصري أن ثمة مظاهر عديدة لحالة من الانهيار القيمي‏,‏ تشير جميعها إلي مجتمع قد فقد قيمه ومن ثم قواعده المنظمة للسلوك‏.‏ فالسلوك في هذا المجتمع أصبح عشوائيا‏,‏ قد يأتي في نطاقه البعض السلوك ونقيضه‏,‏ السلوك السائد أو المتبع أصبح يختلف في أحيان كثيرة عما ينبغي أن يكون عليه السلوك‏,‏ لغياب القيم الموجهة أو المنظمة لسلوكيات البشر أو حتي لضعف أدائها وفعاليتها‏.‏ لقد اختلط كل شيء حتي أصبح من الصعب أحيانا التفرقة بين الحلال والحرام‏,‏ والخطأ والصواب‏,‏ ولذلك أسبابه ومظاهره العديدة‏.‏

‏1-‏ من الأسباب المسئولة عن هذه الهشاشة الثقافية تسارع التحولات الاجتماعية الاقتصادية التي مر بها المجتمع‏,‏ فقد كان المجتمع ذو توجه ليبرالي بالأساس إضافة إلي منظومات قيمية أخري مجاورة ثم تحول بعد‏1952‏ إلي التوجه القومي مع اتباع كل ما يمكن أن يسمي بالتطور الرأسمالي المرشد في نفس الوقت‏.‏ واستمر التوجه القومي من‏1952‏ حتي‏1960‏ حيث انهيار الوحدة كأول مشروع أو حلم قومي‏.‏ في أعقاب ذلك حدث تحول جديد استغرق الفترة‏1961‏ وحتي‏1970‏ تم التأكيد فيه علي التوجهات الاشتراكية‏.‏ هذه التوجهات فرضت ضرورة أن توجه سلوكيات البشر بمنظومة قيمية غير المنظومات التي كانت سائدة من قبل‏.‏ وحينما وقعت نكسة‏1967‏ بدأ التآكل في التحول الاشتراكي وإن كان بصورة غير محسوسة في البداية‏.‏ غير أنه حينما توفي الزعيم الاشتراكي في‏1970‏ بدأت التحول عن الاشتراكية في اتجاه الليبرالية واضحا وصريحا‏.‏ وقد عجل من ذلك تراجع فاعلية قوة الاتحاد السوفيتي‏,‏ واتساع فاعلية القوي الرأسمالية أو الليبرالية‏.‏ وقد استمر هذا التحول حتي‏1990‏ ليبدأ تحول جديد مع سقوط الاتحاد السوفيتي‏,‏ وبداية تشكل نظام عالمي جديد أصبحت متغيرات التغير أو التحول فيه من الخارج بالأساس‏.‏

‏2-‏ وإذا كان من الطبيعي أن يكون التحول الاجتماعي ذا طبيعة تراكمية في نتائجه‏,‏ وهو ما حدث بالنسبة للمجتمعات التي قطعت شوطا علي طريق التقدم‏,‏ باعتبار أن التحول يحافظ علي الخبرات التي يحصل عليها المجتمع‏,‏ ويعمل علي تراكمها لكونها تشكل رأسماله‏.‏ ارتباطا بذلك فإن تأثير التحولات علي منظومة القيم أدت إلي نتيجتين‏,‏ الأولي تبديد التحولات لخبرات المجتمع ومنظوماته القيمية‏,‏ فكل تحول‏,‏ كان لاغيا لما قبله‏.‏ فقد ألغي التحول الاشتراكي القيم الليبرالية باعتبارها قيما مدانة لكونها تشجع علي الاستغلال وعدم المساواة‏.‏ وألغي التحول الليبرالي القيم الاشتراكية باعتبارها تؤكد علي المساواة في الفقر‏,‏ إلي جانب كونها تقتل الحافز الفردي وتشجع علي الكسل والاعتماد علي الدولة‏.‏ ثم تأتي العولمة لتري في كل هذه القيم‏,‏ مخلفات ماضية‏,‏ وعلي الجميع أن يعدوا أنفسهم للأخذ بقيم العولمة‏.‏ وإذا كانت الثقافة تحتوي علي خبرة المجتمع‏,‏ فإنها بذلك تشكل رأسماله الذي يجري تبديده في كل مرحلة من مراحل التحول‏.‏ وتتمثل الظاهرة الثانية في أن تتابع منظومات القيم دون هضم المجتمع لها‏,‏ يعني استيعابه لمضامين قيميه متعددة ومختلفة ومتناقضة‏,‏ الأمر الذي يؤدي إلي إصابة المجتمع بعسر الهضم الثقافي‏,‏ أو التخمة الثقافية‏.‏ مما قد يؤدي إلي إفراغ المجتمع لكل ما في جوفه من قيم‏,‏ أو قد يحيا أحيانا بلا قيم أو بقيم سلبية‏.‏ وإذا كان من الصعب علينا تصور أن يغير الإنسان مبادئه وقيمه مرات عديدة في حياته‏,‏ فإنه يصبح من المستحيل أن نتصور تغيير المجتمع لأيديولوجياته ومنظوماته القيمية علي مدي فترة زمنية محدودة بالنسبة للمجتمع‏,‏ هو مدي الحياة الفردية‏,‏ غير أن ذلك قد حدث‏,‏ وقد شكل كارثة‏.‏ لقد أضعفت هذه التحولات بنية الثقافة والقيم‏,‏ لأنها أصبحت جميعها بلا عمق في التاريخ‏,‏ وبلا جذور في المجتمع‏,‏ ومن ثم فقد عاشت الثقافة في ظل أحد مظاهر‏'‏ الأنومي‏'‏ التي تشير في جانب منها إلي ضعف وعدم تجذر منظومات القيم‏.‏ بالإضافة إلي ذلك فقد تخلق في لا وعي البشر في المجتمع منطق أن كل شيء مآله إلي التغير والاستبدال السريع‏,‏ إذا فلنتعايش مع منظومات القيم دون أن نستوعبها‏,‏ فقد يأتي الجديد الذي علينا أن نستوعبه‏,‏ وهو حتما سيأتي‏,‏ وسوف يأتي بعده ما هو أكثر جدة منه‏.‏ إذا فلننتظر ولو كان الإنتظار بلا قيم‏.‏

‏3-‏ من المشكلات أو الظواهر التي عانت منها الثقافة ومنظومات القيم كذلك‏,‏ خلال هذه المرحلة‏,‏ تعدد المنظومات القيمية إلي جوار بعضها البعض‏.‏ وإذا كانت الحالة المثالية للمجتمع أن تكون له ثقافته أو مخزونه القيمي الذي يعبر عن هويته‏,‏ وهي الهوية الثقافية أو القيمية التي تشكل مرجعيته في التعامل مع كل مكونات الوجود المحيط به‏.‏ فإن الأمر لم يكن كذلك في مجتمعنا‏,‏ فقد حدثت قطيعة مع الموروث الديني والثقافي‏,‏ الإسلامي والمسيحي علي السواء‏,‏ وبدأت النظم السياسية في استدعاء أو استجلاب قيم غربية وغريبة علي المجتمع من الخارج‏,‏ لتساعد في تحديث المجتمع‏.‏ ونتيجة لذلك رفض المجتمع الطبيعي القيم التي آتي بها النظام السياسي‏,‏ الذي بادله رفضا برفض موروثه الثقافي‏.‏ ونتيجة لذلك فلا الموروث الثقافي تم تجديد بعض عناصره ليشارك في تحديث المجتمع‏,‏ ولا المجتمع انصاع وحدث نفسه وفق قيم ومبادئ أيديولوجية نجحت في تحديث مجتمعات أخري‏.‏ ولقد أدي ذلك إلي وضع مدهش وغريب حيث تواجدت علي ساحة المجتمع منظومات قيم غير متفاعلة‏.‏ منظومة القيم الدينية التي جاءت إلي المجتمع من روافده الإسلامية أو المسيحية‏,‏ وهي منظومة قاعدية وقوية لأنها متجذرة في بنية الشخصية المصرية‏.‏ غير أن الأنظمة السياسية ظلت تؤكد علي تحديد فاعلية الدين بحدود الضمير الفردي‏,‏ دون أن تكون له علاقة بتنظيم المعاملات في مختلف مجالات الحياة‏.‏ في مقابل ذلك توجد القيم الاستهلاكية التي تدعو إلي حياة ترفية مسترخية علي عكس التقشف والفاعلية التي تدعو إليها القيم الدينية‏.‏ ذلك إلي جانب منظومة القيم الليبرالية التي تدعو إلي الحرية الاقتصادية الاجتماعية والسياسية والاحتكام إلي قوانين السوق‏,‏ وتقر التفاوت واحترام المصلحة الخاصة‏.‏ في مقابل القيم الاشتراكية المؤكدة علي المساواة واحترام مبادئ العدالة الاجتماعية وفرض أولوية مصالح الجماعة علي مصالح الفرد‏,‏ وتقييد حرية الفرد بالتزاماته نحو الجماعة‏.‏ وهو ما يعني أن منظومات القيم المتعددة والموجودة في فضاء المجتمع‏,‏ لم تكن منفصلة فقط ولم تنصهر في منظومة قيمية واحدة كذلك‏,‏ ولكنها قدمت معان متناقضة مع بعضها البعض‏.‏ الأمر الذي أضعف فاعليتها في توجيه سلوك البشر في مختلف المجالات الاجتماعية من ناحية‏,‏ واعاقها عن الإنصهار في منظومة قيمية واحدة ومتجانسة من ناحية ثانية‏.‏ ودفع إلي حالة تسعي في إطارها كل منظومة إلي تقديم معاني ترفض معاني المنظومة أو المنظومات الأخري‏,‏ نتيجة لكل ذلك تخلقت حالة من انعدام المعايير المتفق عليها أو حالة‏'‏ الأنومي‏'‏ بالمعني الدوركيمي لذلك‏.‏

‏4-‏ برغم أن الحالة المثالية للمجتمع تؤكد علي ضرورة أن يمتلك المجتمع منظومة قيمية واحدة‏.‏ فإننا نلاحظ انفصالا في بنية الثقافة بين القيم والمعايير والقواعد ذات العلاقة العضوية بكل من المجتمع السياسي والمجتمع الطبيعي‏,‏ وكذلك المجتمع المدني‏.‏ إضافة إلي التناقض الداخلي بين المنظومات القيمية التي تنتمي لكل مجتمع من هذه المجتمعات‏.‏ وقد يرجع ذلك في بعض منه إلي أن الدولة القومية في العالم العربي لم تتطور من رحم المجتمع الطبيعي‏.‏ أو قد يرجع إلي أن النظام السياسي لم يؤسس مؤسسات لصهر قيم المجتمع الطبيعي والمجتمع السياسي‏,‏ كما أنه لم يؤسس علاقات عضوية بين منظومات القيم التي تقع علي مستويات متباينة‏.‏ في هذا الإطار فإننا نجد أنفسنا في مواجهة منظومات قيم تنتمي بالأساس إلي المجتمع الطبيعي كمنظومة القيم الدينية أو المنظومة التراثية‏,‏ مضافة إلي منظومات القيم تنتمي إلي المجتمع السياسي‏,‏ وهي المنظومات المتضمنة في أيديولوجيا المجتمع السياسي‏,‏ كمنظومة القيم الليبرالية ومنظومة القيم الاشتراكية‏.‏ بحيث يعتبر ذلك مظهر من مظاهر‏'‏ الأنومي‏'‏ حيث تضعف قيم كل من المجتمع الطبيعي والمجتمع السياسي بعضها البعض‏.‏ فإذا أضفنا إلي ذلك القيم التي يعمل المجتمع المدني الآن علي نشرها‏,‏ بخاصة فاعله الرئيس المتمثل في المنظمات الأهلية أو غير الحكومية‏.‏ فإننا سوف نجد أن لدينا مجتمعات ثلاثة لكل مجتمع منظوماته القيمية‏,‏ التي لم يحدث بينها انصهار‏,‏ الأمر الذي يخلق حالة من تعدد مرجعيات السلوك‏.‏ فإذا حدث أن تناقضت هذه المرجعيات مع بعضها البعض فإن تأثيرها علي السلوك في جملته سوف يصبح ضعيفا‏.‏ وقد يتعامل الفرد بصورة نفعية وذرائعية مع المرجعيات القيمية المتباينة‏,‏ ومن ثم تتحول القيم لديه إلي وسائل وليست غايات‏.‏ وقد ينحرف الفعل الفردي عن مرجعية معينة لمجتمع بعينه‏,‏ إلي مجتمع بمرجعية قيمية أخري أو مجتمع آخر طبيعيا كان أم سياسيا‏.‏ فالمطالب بالدولة ذات المرجعية الدينية قد تبارك قوله المرجعية الدينية‏,‏ ولكن المرجعية الاشتراكية أو الليبرالية تدينه وترفضه‏.‏ والملحد الخارج عن الملة قد تباركه بعض الأيديولوجيات العلمانية‏,‏ لكنه يصبح موضع إدانة من قبل القيم أو المرجعية الدينية‏.‏ في هذا الإطار تتخلق مرة أخري حالة من حالات‏'‏ الأنومي‏'‏ التي تعني وجود حالة من الفراغ الأخلاقي الذي يسود المجتمع‏,‏ وفي هذه الحالة قد يصبح سلوك البشر عشوائيا وعاريا من الأخلاق أحيانا‏.‏

‏5-‏ غياب أو ضعف مؤسسات التنشئة الاجتماعية‏,‏ وذلك استنادا إلي أن منظومة القيم تؤدي دورها علي نحو ما أشرت من خلال ثلاثة مستويات‏.‏ في إطار المستوي الأول نجد أن القيم توجد في الفضاء الاجتماعي كرموز تحدد الحلال والحرام الديني كما تحدد الخطأ والصواب الثقافي‏.‏ ويتمثل المستوي الثاني في وجود القيم باعتبارها تشكل البناء المعياري الضابط لتفاعل البشر في مواقفهم الاجتماعية المتنوعة‏,‏ داخل مختلف المجالات الاجتماعية‏.‏ وفي هذه الحالة قد تأخذ القيم شكل العادات والتقاليد والأعراف الضابطة للمواقف المختلفة والتي تؤدي دورها من خلال صيغة التوقعات المتبادلة‏.‏ ويشير المستوي الثالث لتواجد منظومة القيم إلي الحالة التي تلعب فيها مؤسسات التنشئة المتعددة أدوارها‏,‏ في تأسيس الضمير الفردي من خلال عملية التنشئة الاجتماعية التي تقوم بها هذه المؤسسات‏.‏ وتوجد ثلاث حالات تشير إلي ضعف أداء مؤسسات التنشئة الاجتماعية‏,‏ في الحالة الأولي نجد أن مؤسسات التنشئة الاجتماعية قد تؤدي دورها أحيانا بمستوي غير فعال‏,‏ فمثلا قد كانت العائلة الممتدة هي العائلة التي تستطيع القيام بعملية التنشئة الاجتماعية بصورة فعالة وشاملة‏,‏ لكونها النمط العائلي السائد‏.‏ الآن يتشكل التكوين العائلي في المجتمع المصري بنسبة‏23%‏ من العائلة الممتدة‏,‏ فنسبة‏77%‏ من العائلات أصبحت عائلات نووية‏,‏ ونظرا لقدرة هذه الأخيرة المحدودة علي التنشئة لضيق مساحة الوقت المخصص للتنشئة في الزمان الأسري فقد اتجه المجتمع الحديث إلي خلق بدائل لها‏.‏ فإذا لم يوجد في المجتمع بدائل للقيام بالتنشئة الاجتماعية‏,‏ فإن الأمر يصبح كارثة‏,‏ لأن الطفل سوف تتلقفه مصادر عديدة‏,‏ ربما غير سوية تتولي تنشئته‏,‏ وفي هذا الإطار من المحتمل أن ينشأ وفق قيم منحرفة‏.‏ ويرتبط بذلك ضعف دور المدرسة التي اقتصرت علي تلقين مجموعة من المعارف الإدراكية دون الاهتمام بغرس منظومات القيم الأخري‏,‏ الأمر الذي يعني غياب دور المدرسة في التنشئة الاجتماعية علي القيم‏.‏ ويتصل بذلك ضعف دور التنشئة الدينية‏,‏ علي الصعيد الإسلامي والمسيحي علي السواء‏,‏ بسبب تراجع حجم وفاعلية هذه المؤسسات فلم يعد‏'‏ الكتاب الريفي‏'‏ أو ما يمكن أن يناظره يقوم بذات الدور‏,‏ ولم تعد الآلية المماثلة علي الطرف المسيحي تقوم بنفس الدور‏.‏ ونتيجة لذلك تآكل دور المدرسة في التنشئة الدينية‏,‏ ولم يقدم الدين للصغار سمحا ومعتدلا‏,‏ يحتوي الآخر في نطاق أخوة إنسانية حية وتركت الساحة رحبة لمجموعات التطرف كي تقوم هي بالتنشئة وفق قيم التطرف والعنف‏.‏

فإذا انتقلنا إلي الحالة الثانية والتي تتعلق بمؤسسات التنشئة الاجتماعية في المجتمع السياسي فسوف نجد غياب أو ضعف آداء هذه المؤسسات كذلك‏,‏ فلم يحدث أن قام المجتمع الاشتراكي بتأسيس مؤسسات للتنشئة وفقا للقيم الاشتراكية‏,‏ اللهم إلا بعض التكوينات التابعة حينئذ للاتحاد الاشتراكي المترهل‏,‏ والتي اقتصر دورها علي تدريب الشباب علي حفظ وترديد بعض الشعارات‏,‏ إضافة إلي تعريفهم ببعض المعلومات السطحية عن الماركسية ونماذج الاشتراكية‏.‏ وما حدث بالنسبة للتنشئة وفقا للقيم الاشتراكية حدثت التنشئة بالنسبة للقيم الليبرالية‏,‏ حيث غياب فاعلية التنشئة السياسية أو عدم وجودها كلية‏.‏ وما دمنا نتحدث عن مؤسسات التنشئة ذات الصلة بالمجتمع السياسي فإننا نعتقد أن الإعلام عندنا ليس لديه منظومة قيمية أو ميثاق أخلاقي يحدد له ما ينبغي تنشئة البشر في المجتمع عليه‏,‏ الأمر الذي يجعل أداءه عشوائيا هو الآخر‏.‏ ويحدث نفس الأمر وهي الحالة الثالثة بالنسبة للمجتمع المدني كذلك‏,‏ فلا أعتقد أن الأحزاب قد لعبت دورا من أجل تأهيل النشء وفقا لبرامجها ومنظوماتها القيمية‏,‏ كما لا أعتقد أن النقابات قد فعلت نفس الشيء‏,‏ وكذلك لا أعتقد أن المنظمات غير الأهلية
قد أدت دورا فعالا في هذا الصدد‏.‏ اللهم بعض المنظمات القليلة التي تدرك مسئوليتها الاجتماعية في هذا الاتجاه‏,‏ بدلالة أن العمل الأهلي أو التطوعي يتحقق في مجتمعنا‏,‏ بدون الثقافة أو القيم الحديثة للعمل الأهلي‏,‏ وهي القيم التي يمكن أن تقوم الأسرة والمدرسة والجهاز الإعلامي بغرسها في شخصية الأبناء‏.‏
المراجع‏:‏
‏1-TalcottParsons:TheScialSystem,TheFreePress,Glencoe,1952,P..42‏
‏2-Sorokin,P:SocialMobility,NewYork,McHill,1952,P..74‏
‏3-Gouldner,Alvin:TheComingCrisisofWesternSociology,Heinmam,London,1971,P..113‏
‏4-Ibid,P..230‏
‏5-Merton,R.K.:SocialTheoryandSocialStructurethefreepressofGlencose.1962,P..73‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://social.alafdal.net
علي كامل
أكاديمى




ذكر عدد الرسائل : 77
العمر : 65
التخصص : علم الاجتماع
الدولة : العراق- مقيم بليبيا
تاريخ التسجيل : 21/08/2008

تحولات الثقافة ومنظومات القيم في مصر Empty
مُساهمةموضوع: رد: تحولات الثقافة ومنظومات القيم في مصر   تحولات الثقافة ومنظومات القيم في مصر Empty13/10/2010, 12:38 am

لك كل الود.. والمحبة؛ ولإستاذنا الدكتور علي ليلة الصحة وطول العمر منجزاً موفقاً.. ولكم أخي الكريم.. إتاحتكم لهذا النص
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تحولات الثقافة ومنظومات القيم في مصر
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» تحولات مفهوم القومية العربية من المادى إلى المتخيل
» مراجعات الإسلاميين دراسات فى تحولات النسق السياسى والمعرفى
» تحولات الرفض الشبابي ‏..‏ تأملات في تفاعل نصف قرن .. دراسة للدكتور على ليلة
» القيم الى أين؟
» طلب كتب عن نظرية القيم

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
إنســـانيــات .. نحـو عـلم اجـتماعى نـقدى :: 
منتدى الخدمات العامة لجميع الباحثين
 :: 
قضــــايا ومنــاقـشــــات فى كل المجالات
-
انتقل الى: