إنســـانيــات .. نحـو عـلم اجـتماعى نـقدى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

إنســـانيــات .. نحـو عـلم اجـتماعى نـقدى

خطوة على طريق الوعي
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 المرأة في الغزل الصوفي (3) عبد القادر الأسود

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبد القادر الأسود
عضو نفخـر به




ذكر عدد الرسائل : 46
العمر : 76
التخصص : شاعر وباحث
الدولة : سورية
تاريخ التسجيل : 12/05/2010

المرأة في الغزل الصوفي (3) عبد القادر الأسود Empty
مُساهمةموضوع: المرأة في الغزل الصوفي (3) عبد القادر الأسود   المرأة في الغزل الصوفي (3) عبد القادر الأسود Empty25/5/2010, 8:23 am


المرأة في الغزل الصوفي (3) عبد القادر الأسود 16
تابع .. المرأة في الغزل الصوفي
للشاعر:
عبد القادر الأسود

المرأة في الغزل الصوفي (3) عبد القادر الأسود 16

الباب الثالث:
الحبّ عند السادة الصوفيين :


أوّلاً : معنى كلمة الحبّ في اللغة العربية :
الحُبُّ أو الحِبُّ أو المحبَّة ، لغةً : ميلُ النفسِ إلى ما تراه أو تَظُنُّهُ خيراً لها، والحبيبُ على وزنِ فَعيلٍ ، يكون بمعنى محِبٍّ وبمعنى محبوبٍ . لكنَّ الدارج على ألسنة والمشتهرُ أنَّ الحِبَّ ، بكسر الحاء هو المحِبُّ وهو المحبوبُ أو المُحَبُّ، والأنثى حِبَّةٌ ومحبوبة ، وهما حِبّان وحبيبان والجمعُ أحبابٌ أحِبَّةٌ وحَبَبَةٌ ، أمّا الحُبُّ : بضمِّ الحاء فهوي المصدرُ ، ويقال أَحْبَبْتُهُ وحَبَبْتُهُ .
وللحُبِّ مراتبُ فصّل فيها الثعالبـيُّ في كتابه المسمّى بـ {فقه اللّغة} على النحو الآتي : أوَّل مَرَاتِبِ الحُبِّ الهَوَى . ثُمَّ العَلاَقَةُ : وهي الحُبُّ اللاَّزِمُ للقَلْبِ . ثُمَّ الكلَفُ : وهو شِدَّة الحُبِّ . ثُمَّ العشْقُ : وهو اسْمٌ لِمَا فَضَلَ عَنِ المِقْدَارِ الذي اسْمُهُ الحُبُّ . ثُمَّ الشَعَفُ وهو إحْرَاقُ الحُبِّ القلْبَ مَعَ لَذَةٍ يَجِدُها ، وَكَذَلِكَ اللَّوْعَةُ واللاَّعِجُ ، فإنّ تِلْكَ حُرْقَةُ الهَوَى وهذا هوَ الهَوَى المُحْرِقُ . ثمَّ الشَّغَفُ : وهُوَ أنْ يَبْلُغَ الحُبُّ شَغافَ القَلْبِ وهي جِلْدَةٌ دُوْنَهُ وقد قُرِئَتَا جَمِيعاً { شَعَفَهَا حُبّاً} وَشَغَفَهَا . ثُمّ الجَوَى : وَهَو الهَوَى البَاطِنُ . ثُمَّ التَّيْمُ : وهُوَ أنْ يَسْتَعْبِدَهُ الحُبُّ ، ومِنْهُ سُمِّي تَيْمُ اللّهِ أي عَبْدُ اللهّ ، ومِنْهُ رَجُلٌ مُتَيّمٌ . ثُمَّ التَّبْلُ : وهُوَ أنْ يُسْقِمَهُ الهَوَى ، وَمِنْهُ رَجُلٌ مَتْبُولٌ . ثُمَ التّدْلِيهُ : وهُوَ ذَهَابُ العَقْلِ مِنَ الهَوَى ، ومِنْهُ رَجُلٌ مُدَلَّهٌ . ثُمَّ الهُيُومُ( أو الهُيام) : وهُوَ أنْ يَذْهَبَ عَلَى وَجْهِهِ لِغَلَبَةِ الهَوَى عَلَيهِ ، ومِنْهُ رَجُل هَائِم (وهيْمانٌ) .(1)
أمّا إبراهيم اليازجي فقد قسَّمها في كتابه {نجعة الرائد} قائلاً : وأوّلُ مراتِبِ الحُبِّ الهوى: وهو ميلُ النفسِ ، ثم العلاقةٌ: وهي الحُبُّ اللازمُ للقلب، ثم الكَلَفُ: وهو شِدَّةُ الحُبِّ ، ثم العِشْقُ: وهو إعجابُ المُحِبِّ بمحبوبه أو إفراطُ الحُبِّ، ثم الشَغَفُ: وهو أنْ يَلْذَعَ الحُبُّ شَغافَ القلبِ أيْ غِلافَه ، ثم الجَوى: وهو الحُرْقَةُ وشِدَّةُ الوَجْدِ ، ثم التَتَيُّمُ : وهو أنْ يَستعبِدَه الحُبُّ ، ثم التَبْلُ: وهو أنْ يُسْقِمَه الهوى ، ثم التَدَلُّهُ (أو الَدَلَهُ): وهو ذَهابُ العقل من الهوى ، ثم الهُيامُ وهو أن يَذهبَ على وجهه لِغَلَبَةِ الهوى عليه . (2)


وأَذْكُرُ أنَّ شيخَنا العارفَ بالله المرحوم الشيخ عبد القادر عيسى قد زاد على هذه المراتب مرتبتين اثنتين هما:
1 ــ الخُلّة : وهي مرتبةُ سيدنا إبراهيم { عليه السلام } ، قال الله في كتابه العزيز( واتّخذ اللهُ إبراهيمَ خليلاً )) (3) وهي أيضاً مرتبةُ سيّدنا أبي بكر الصدّيق {رضي اللهُ عنه} لما جاء في الصحيحين أنّ رسول الله {صلى الله عليه وسلّم} قال: ((لو كنت متّخذاً من أهل الأرضِ خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)). وَفِي رواية زيادة (( وَإِنّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ الرّحْمَن)) فإنّ الخُلَّة هي كمالُ الحبِّ والنبـيُّ {صلَّى الله عليه وسلَّم} محبته تابعةٌ لمحبّةِ الله ، فأبو بكرٍ إذاً أحبُّهم إلى اللهِ تعالى ، ولذلك كان أحبَّهم إلى رسوله.
والخُلَّة تعنـي : الصديقَ ، وتطلق على الذكر والأنثى ،كما تطلق على الواحد والجمع .والخِلُّ : الصديق المختصّ ، والجمع أخْلال(وأَخِلَّةٌ) . (4)
والخُلَّة أخصُّ من مُطلَقِ المحبّة بحيث هي من كمالها ومن كمال الخُلَّة أنّها لا تقبل الشراكة والمزاحمة لتخلُّلِها المحِبَّ أي تغلغُلِها فيه بحيثُ تكون في كلِّ ذرَّة من ذرّاته ، والخُلّةُ بذلك تُنافي المزاحمةَ بحيث يكون المحبوب محبوباً لذاته محبّةً لا يزاحمه فيها غيرُه.
2 ــ العَبْديّة : وهي مرتبةُ سيِّدِ الخلقِ وحبيبِ الحقِّ ، محمدٍ المصطفى {عليه وآله الصلاةُ والسلام } حيثُ وُصِفَ بها في أرفعِ درجاتِ القُرْبِ يوم أُسريَ به إلى المسجد الأقصى ثمّ عُرج به إلى سدرة المنتهى ، يقول تعالى في كتابه العزيز(سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنُريَهُ من آياتنا إنّه هو السميعُ البصير )) .(5)

ومن مفردات الحبّ :
ــ الصَّبابة : وهي رِقَّةُ الهوى والحُبِّ ، والصّبابةُ : رِقّةُ الشوقِ ، والعِشقُ : رقّةُ الحُبّ ، والرأفةُ : رقّةُ الرحمة . ( 6 )
ــ والغَرامُ : الوُلوعُ والهَلاكُ والعَذابُ . والمُغْرَمُ كمُكْرَمٍ : أسيرُ الحُبِّ . ( 7)
ــ ورَسِيسُ الحب: ابتداءُه ، ورَسَّ الهَوَى في قَلْبه والسُّقْمُ في جِسْمه رَسًّا ورَسِيسَاً وأرَسَّ - ثبَتَ والرَّسِيسُ - الشيءُ الثابِتُ . ( 8 )
ــ والَّلوعة - حُرْقة الهَوَى ، لاعَه الحُبُّ لَوْعاً ولُوُوعاً ولَوَّعه فالْتاعَ وتَلَوَّعَ ، ورجُلٌ لاعٌ والأنثى لاعَةٌ . ( 9 )
ــ والعميد أو المعمود: الشديدُ الحزن ، و المشغوف عشقاً ، وقيل الذي قد بلغ به الحُبُّ مبلَغاً،والأنثى : عميدةٌ ومعمودةٌ ، وقلب عميد هدّه العشق وكسره. (10)
ــ و الزَّمَانَةُ : الحُبُّ . (11)
ــ الوَلهُ: وهو ذَهابُ العقل ، والتحيُّرُ من شِدَّةِ الوجد . ورجلٌ والِهٌ ، وامرأةٌ والِهٌ ووالِهَةٌ أيضاً (12)
ــ وتَبَلَه الحُبُّ يَتْبِلُه . وأَتْبَله : أَسْقَمَه .وقِيلَ : تَبَلَه تَبْلاً : ذَهَبَ بعَقْلِه ، فهو متبولٌ.
ــ والتَيْمُ: العَبْدُ، ومنه سُميَ تَيْمُ اللآتِ أي عَبْدُ اللاتِ. وتَيَّمَهُ الحُب: أي عَبَّدَهُ واسْتَعْبَدَهُ. وقيل: هو المُضَلَّلُ ، وتامَتْ فُؤادَكَ: أي عَلِقَتْه.
ــ والمألُوهُ مفعول من المصدر وهو الإلَهَةُ ، والإلَهَةُ مَصْدَرُ أَلَهَ يَأْلَهُ إِلَهَةً وأُلُوهَةً إذا عَبَدَ مع الحبِّ والذلِّ والرِضا ، (13) فالإله : هو المعبود مع الحبِّ والذلِ والرضا.
ــ والقَرْعَةُ : اللَوْعَةُ من الحب. (14)
ــ وَمَعدَهُ الحُب: أي وَقَذَه . (15)
ــ والبَشَاشَةُ: الحُبُّ (16)
ــ ورَمْسُ الحُب: دَفِيْنُه في القَلْبِ. (17)
ــ الحرض : الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم . (18)

ثانياً : ما هو تعريف الحب:
جاء في كتاب{جامع أسرار الطب} للحكيم عبد الملك ابن زُهر القرطبـي في بيان سبب الحب قوله العشق الحسي إنما هو ميل النفس إلى الشيء الذي تستحسنه وتستلذّه ، وذلك أنّ الروح النفساني الذي مسكنه الدمَاغ قريب من النور البصري الذي يحيط بالعين ومتصل بمؤخّر الدماغ وهو الذُّكْر فإذا نظرت العين إلى الشيء المستحسَن انضّم النوري البصريّ وارتَعَد فبذلك الانضمام والارتعاد يتصل بالروح النفساني فيقبله قبولاً حسناً ثم يودعه الذُّكر فيوجب ذلك المحبةَ . ويشترك أيضاً بالروح الحيواني الذي مسكنه القَلب لاتصاله بأفعاله في الجسد كله فحينئذ تكون الفكرة والهم والسهر). (18) وسئل أفلاطون عن العشق فقال جُنونٌ إلهيٌّ ! لا محمودٌ ولا مَذموم).(19) وسئل عنه آخر فقال: حَرَكَةُ النفسِ الفارِغَة ِ. وقال فيلسوف ثالث ( لم أر حقّاً أشبهَ بباطلٍ من العشق ، هَزْلُهُ جِدٌّ ، وجِدُّهُ هَزْلٌ ، أوَّلُه لَعِبٌ وآخرُهُ عَطَبْ:
إنَّ الهوانَ هو الهوى جَزَمَ اسمُهُ فإذا لَقيتَ هَوًى لقيتَ هَوانا (20)
قال الشاعر ابن الدُمَيْنَة أيضاً :
هل الحُبُّ إلاّ زفرةٌ بعــــــــــد زفـــرةٍ
وحرٌّ على الأحشاءِ ليس له بَـــــــرْدُ
وفيضُ دموعِ العينِ يهمي كلَّمــــــــــــــا
بدا عَلَمٌ من أرضِكم لم يَكُنْ يَبْــــدو (21)
وقال بعض الصوفية : الهوى محنةٌ امتحنَ الله بها خلقَه ليستدلَّ به على طاعتِهم لخالقِهم ورازقِهم . وقيل لبعضهم : ما العشق؟ فقال: ارتياحٌ في الخُلْقةِ وفَرَحٌ يجول في الروح ، وسرورٌ ينساب في أجزاءِ القُوى . التحذير من تعظيم الآثار غير المشروعة. (22)
والحبُّ تعلُّق القلب بالمحبوب على وجه الاستئناس بقُربِه والاستيحاش من بُعده . وقال العَيْنـيُّ: سألتُ أَعْرابيّاً عن الهوى فقال: هو أَظْهرُ مِنْ أنْ يخفى، وأَخْفى مِنْ أَنْ يُرى ، كامِنٌ كُمونَ النارِ في الحَجَرِ ، إنْ قَدَحْتَه أَوْرى ، وإنْ تركتَهُ توارى . وسُئلَ يحيى بنُ مُعاذٍ عن حقيقة الحب فقال : الذي لا يَزيدُه البِرُّ ولا يُنقِصُه الجَفاء.(23)
والحبُّ يقتضي التذلُّلَ والخضوع لمن تحبُّ , وغايتُه وأرفعُ درجاتِه أنْ تعبُدَه، لأنَّ العبادةَ معناها الخضوع والتذلّل مع الحبّ . قال ابن القيّم : ((والعبادة تجمع أصلين ، غايةَ الحُبِّ بغايةِ الذُلِّ والخُضوعِ ، والعَرَبُ تقول: طريقٌ معبَّدٌ أي مذلَّلٌ، والتعبُّدُ التذلُّلُ والخضوعُ ، فمَن أحببتَه ولم تَكن خاضعاً له لم تكن عابداً له ، ومَن خضعتَ له بلا محبَّةٍ لم تكن عابداً له حتى تكون محبّاً خاضعاً )).
وقال أيضاً : ( العبادة هي الحُبُّ مع الذُلِّ ؛ فكلُّ مَن ذَلَلْتَ له وأطعتَه وأحببتَه ، دون الله ، فأنت عابدٌ له ) ، وقال ابن تيمية : ( فالإله الذي يألهه القلبَ بكمالِ الحُبِّ والتعظيمِ والإجلالِ والإكرامِ والخوفِ والرجاءِ ونحوِ ذلك ، وهذه العبادة هي التـي يحبُّها اللهُ ويرضاها ، وبها وصف المصطَفَيْن من عِبادِه وبها بعثَ رسلَه ) . (24)


والحبّ ؛ هو ثمرة العلم بجمالِ الربّ وكماله وإنعامه وإحسانه ؛ لأنّ القلوب مجبولة على محبّة الكمال ، وعلى محبّة من أحسن إليها . والمحبّة الَّتـي يثمرها العلم بهاتين الصّفتين أكمل أنواع الحبّ القلبي ؛ وهي محبّة التألّه الَّتـي إذا استقرّت في القلب أورثت أهلها كمال الاتّباع والإيثار ، وموافقة الربّ في محبوباته ومكروهاته ظاهرًا وباطنًا .
يقول العلاّمة الألوسي مقسّماً المحبّةَ إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول : محبّةُ العوامّ ، وهي مطالعةُ المنَّةِ من رؤيةِ إحسان المحسن (جبلت القلوب على محبة من أحسن إليها) وهو حبٌّ يتغيّر ، وهو لمتابعيِّ الأعمال الذين يطلُبون أجراً على ما يعملون،وفيه يقول أبو الطيب :
وما أنا بالباغي على الحبِّ رِشْوةً
ضعيفُ هوًى يُرجى عليه ثواب
القسم الثاني : محبة الخواصّ المُتَّبعين للأخلاق الذين يحبونَه إجْلالاً وإعظاماً ولأنَّه أهلٌ لذلك ، وإلى هذا القسم أشار {صلى الله عليه وسلم }بقوله : نعم العبدُ صهيبٌ ، لو لم يخَفِ اللهَ لم يَعْصِه ، وقالت رابعة العدويّةُ ، {رحمها الله تعالى}:
أُحبُّك حُبّين:حُبُّ الهوى وحُبٌّ لأنّك أهلٌ لِذاكـــــا
وهذا الحبُّ لا يتغيّر إلى الأبد لبقاء الجمال والجلال إلى السرمد .
القسم الثالث : محبّةُ خواصّ الخواصّ المتَّبعين للأحوال ، وهي الناشئةُ من الجَذْبةِ الإلهيّة في مكامن «كنتُ كنزاً مخفيّاً..» وأهل هذه المحبّةِ همُ المستعدّون لكمالِ المعرفة ، وحقيقتُها أنْ يفنى المُحبُّ بسطوتها فيبقى بلا هو ، وربمّا بقي صاحبُها حيرانَ سكران لا هو حيٌّ فيُرجى ولا ميّتٌ فيُبكى ، وفي مثل ذلك قيل:
يقولون إنّ الحُبَّ كالنار في الحشــا
ألا كذَبوا فالنــارُ تَــــــــــــذْكو وتَخمــــــــــد
وما هو إلاّ جَـــــــــــــذوةٌ مسّ عودهــــــــــا
نـــــدًى فهي لا تذكو ولا تتوقـــــــــــــد


ويكفي في شرحُ الحُبِّ لفظُه ، فإنه حاء وباء ، والحاء من حروف الحلق، والباء شفوية ، ففيه إشارةٌ إلى أنَّ الهوى ما لم يستولِ على قلبِه ولسانِه وباطنِه وظاهرِه وسرِّه وعَلَنِه لا يُقالُ له : حب ، وشرحُ ذاك يطول ، وهذه محبّةُ العبد لربّه ، وأمّا محبّة ربّه سبحانه له فمختلفة أيضاً ، وإن صَدَرتْ من محلٍّ واحدٍ فتعلّقت بالعوامّ من حيثُ الرحمة ،فكأنَّه قيل لهم : اتبعوني بالأعمال الصالحة يخصكم الله تعالى برحمتِه ، وتعلقت بالخَواصّ من حيث الفضلُ فكأنّه قِيل لهم: اتّبعوني بمكارم الأخلاق يخصّكم بتجلي صفاتِ الجمال ، وتعلقت بخواصِّ الخواصّ من حيث الجذبةُ فكأنّه قيل لهم : اتّبعوني ببذل الوجودِ يخصّكم بجذبِهِ لكم إلى نفسِه ، وهناك يرتفع البَوْن من البيْن ، ويظهر الصبـــــــح لذي عينين والقطرةُ من هذه المحبَّةِ تُغْنـي عن الغدير .

وحُبُّ الله واجبٌ شرعيٌّ وحقيقة واقعة وليس مجرّد دعاوى وعواطف لا حقيقة لها في الواقع ، كما يتوهّمه المغرورون ، أو مجرّد محبّة عقليّة تعنـي إيثار ما يقتضي العقل السّليم رَجَحانُه ، كما يَزعُم الجَهْميّةُ نُفاةُ المحبّةِ ؛ إذِ الربُّ عندَهم لا يُحِبُّ ولا يُحَبُّ ؛ لأنّ المحبّةَ لا تَكون إلاّ لمِناسبةٍ بين الجانبين، ولا مناسبة بين القديم والمُحْدَث !
ومن حكمته تعالى أنْ فطر عباده على أنْ يكون جلالُ المحبوب وجمالُه أعظمَ دواعي الحُبِّ في قلوبهم ، فالقلب يحبُّ كلَّ جميلٍ ، ويتعلَّق بكلِّ جليلٍ، ومن هنا تعلَّقت القلوب بربِّها لعظمتِه ، وكمالِ أوصافهِ ، وجلالِهِ وجمالِهِ . وقد كذَّبَ القرآنُ مقالتَهم في نُصوصٍ كثيرةٍ ؛ كقولِه تعالى : {يا أيُّها الذين آمنوا مَنْ يرتدَّ منكم عن دينِه فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}. (25) وقوله: { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }.(26)
والحقّ خلاف ما عليه هؤلاء وهؤلاء ؛ فإنّ محبّة الله ـ تعالى ـ تملأ القلب ، وتستتبع آثارها الظّاهرة والباطنة ؛ التزامًا بالشّرع ، واتّباعًا لأحكامِهِ وتقديمًا له على كلّ محبوبٍ ، قال تعالى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويغفر لكم ذنوبكم ..}. (27) ، وقال :{ قُلْ إنْ كَانَ آباؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }.(28) والحُبُّ هذا الذي {يُعمي ويُصمّ } كما قال النبـيُّ {صلى الله عليه وسلم }حُبُّكَ الشيءَ يُعمي ويُصِمُّ ). (29) والذي قيل فيه :
أصمّنـي الحُبُّ إلاّ عن تسامره فمن رأى حُبَّ حِبٍّ يورث الصَمَما
وكفَّ طَرْفي إلاّ عن رعايتِـــــــــــــــــــــــــــــه
والحُبُّ يُعمي وفيه القتلُ إنْ كُتِـمـــــا ( 30 )

والحُبُّ ، بعد ذلك ، هو هذه العلاقة {التجاذبيّةُ} التـي تَسري في الوجودِ فتَبُثُّ فيه الحياةَ ، وهذه العلاقةُ هي سببُ وجودِهِ واستمرارِهِ ، من النجومِ والكواكبِ وبقيَّةِ الأجرامِ السماويَّةِ ، إلى الذَرَّةِ ــ التي هي أصغرُ مَوجودٍ ــ مُروراً بالإنسانِ والحيَوانِ والنباتِ.
فمعلومٌ أنَّ الأجرامَ السمَاويَّةَ ثابتةٌ في مَداراتها بالقوّةِ الجاذبةِ التـي تعادلُ القوَّة َالنابذةَ المتولِّدةَ عن سُرعةِ الجَرْيِ في الفضاء ، ولولا هذه الجــاذبيَّةُ لتناثرتْ واصطدمَ بعضُهــا بالآخرِ فاحترقتْ وتفتّتتْ .
ومعلومٌ أيضاً أنَّ في الذَرَّةِ شُحَناً سالبةً وأُخرى موجِبَةً ، ولكلٍّ منها مَسارُهُ ودائرتُهُ ، وإنَّ بقاءها قائمٌ على هذه المعادلةِ التي إذا اختلّتْ دُمِّرَتِ الذرّةُ ودَمَّرتْ ما حولهَا .
أمَّا الكائناتُ الحيَّةُ ، من إنسانٍ وحَيَوانٍ ونَباتٍ ، فإنّ وجودَها جميعاً ، قائمٌ على تلك العلاقةِ الحُبِّيَّةِ التَجاذُبِيَّةِ بين طرفَيْها ، المذكّرِ والمؤنّثِ ، وهي إنْ لم تكن مضبوطةً بقواعدَ ونُظُمٍ ، أيضاً ، اختلّت ، وإذا اختلت دمرت المجتمع الإنسانيّ ، فأصبح أقرب إلى البهيميّة ، ولذلك فإنّ الشرع الحنيف، وضع لها نظاماً ضابطاً فيه مصلحةُ المجتمع وخيره .
فالحُبُّ ، إذاً ، هو الذي يحافظُ على بقاءِ هذا الوجودِ ، وعلى استمراريَّتِهِ ولنا في هذا المعنى :
فالحُبِّ بالكـــــونِ قَــــــــــوّامٌ وأنهُرُنا
بحــــــــــارُهُ وبِنــــــــــــــــا الأكـوانُ تحتفلُ
ما ضَرَّنا أنْ تَعامى عن شريعتِنـــــــــــا
قــومٌ؟ فقد كُذِّبتْ من قبلِنا الرُسُلُ (31)
والإنسان بلا حُبٍّ ليس بموجودٍ ذا قيمةٍ ، بالغاً ما بلغ ، ولا شأنَ لهُ ــ في نَظَرِ القدّيس بولس الرسول ــ يقول : ( لو تكلّمتُ بلغات الناسِ والملائكةِ ولا مَحَبَّة عندي فما أنا إلاّ نُحاسٌ يَطِنُّ أو صنجٌ يَرِنّ ، ولو وهَبَنـي الله النبوّةَ وكنتُ عارفاً كلَّ سِرٍّ وكلَّ عِلْمٍ ولي الإيمانُ الكاملُ أنقُلُ به الجبالَ ، ولا مَحَبَّةَ عندي فما أنا بشيءٍ ) (32) والحبُّ عند الشيخ الشاذلي { رضي الله عنه } هو أنْ تحِبَّ اللهَ وأنْ تحبَّ مَن أحببتَه لوجْهِ اللهِ على أنَّه خَلقٌ من خلقِه،يقول : (مَن أحَبَّ اللهَ ، وأَحَبَّ لِلهِ فقد تمَّتْ وِلايتُهُ بالحُبّ ) . (33)
يقول العلامة الألوسي في تفسيره : إن جميع الموجودات تشترك في نوع من الخير لا تكاد تفيء عنه وهو العشق فقد برهن ابن سينا على سريان قوة العشق في كلِّ واحدٍ من الهويات.


والحكماء المتألِّهون قد حكموا بسريان نور العشق في جميع الموجودات على تفاوت طبقاتها ولولا ذلك ما دار الفلك ولا استنار الحلك فسبحانه من إله قاهر وهو الأول والآخر .
والحُبُّ هو السببُ الذي من أجله كان هذا الوجودُ ، يقول الشيخُ
الجيلي : (الحُبُّ أوّلُ تَوَجُّهٍ مِنَ الحَقِّ لوُجودِ العالمَ ) . (34) وذلك لما جاء في الحديث القدسيِّ ( كنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببتُ أنْ أُعرفَ..) ( 35 ) {الحديث} ويضيف الجيليُّ أيضاً ، في كتابه المسمّى بـ {نسيم السَحَر }:
الحُبُّ أَوَّلُ ذا الـوُجــودِ المُطلَقِ والحُبُّ أخرجكم لخلقٍ مُرْتَقِ
بالحُبِّ كان الاِبْتِـدا لِـوُجـودِنا وبهِ الخِتـامُ لمن دَرى بتحقُّقِ
لولا مَقامُ الحُبِّ أَعلى رُتبــــــةً مـــا كان اِسْمُ حبيبِـهِ العبدَ التقي
فالحُبُّ عِلّـــةُ كلِّ أمرٍ ظـــاهـرٍ والحُبُّ شيمَــــةُ كلِّ عبدٍ مُتّقي
ليت شعري : هل علمتَ لِمَ أَحَبَّ المعبودُ ظهورَ هذا الوجود؟ أحبَّهُ لأنَّهُ أوجدَهُ نُسخةَ جمالِه وجلالِه ، فكان بوجودِ العالمَ ِظُهورُ كمالِه ، فأراد شُهودَ باطنِ صورةِ نفسِهِ في ظاهر ِالحِسِّ المجعولِ مِرآةً لقدسِهِ ، ومَظهراً لهيبَتِهِ وأُنْسِهِ ، فنَفْسُهُ المحبوبَةُ المَشهودةُ ، ومَلاحَتُهُ المطلوبَةُ الموجودةُ ، وكذالك محبَّةُ آدم لحواءَ لكوِنها خُلقتْ من ضِلْعِهِ شخصاً مستوياً ، فالمحبوبُ له إذاً ، نَفْسُهُ والمَرغوبُ
إليه حُسنُه ، والمُشاهِدُ له حِسُّهُ) . (36)
يقول الأب جورج رحمة تعقيباً على الحديث السابق (كنتُ كنزاً مخفيّاً ...) برواية قريبة وبنفس المعنى : ( يا لَلْعَجَب !! اللهُ في حاجةٍ إلى الإنسان، لا كضرورةٍ داخليَّةٍ أو خارجيَّةٍ تَدْفعُهُ إلى خلقِهِ ، بل كرغبةٍ صافيةٍ وإرادةٍ رشيدةٍ ليُشرِكَ في غِبطَتِهِ الإنسانَ الذي خلقَهُ على صورتِهِ كمثالِهِ) . (37)
ولذلك فإنَّ الحبَّ إنّما يستغرق الوجودَ كلَّ بما فيه ، ومن فيه ، وهذا الحبُّ هو سببُ استمرار هذا الوجود ، وهو سببُ ازدهارِهِ ، كما كان سببَ وجودِه . وفي هذا المعنى أقول :
أنا روحٌ تضُمُّ الكونَ حبّــــاً وتُطلِقُـهُ فيــزدهرُ الوجــودُ

والمحبَّةُ عند الجُنَيْدِ (رضي الله عنه ): ((دخولُ صفاتِ المحبوبِ على البَدَلِ من صفاتِ المحبِّ )).(38) وسُئل يوماً عن المحبَّةِ فأطرقَ رأسَهُ ودَمعتْ عيناهُ فأجاب:
(( عبدٌ ذاهبٌ عن نفسِه ، متَّصلٌ بذكرِ ربِّــــهِ ، أحرقَ قلبَه أَنوارُ هَيبتِهِ، وصفاءُ شُرْبهِ من كأسِ وِدِّهِ ، وانْكِشفَ لهُ الجبّارُ عن أَستارِ غيبِهِ ، فإنْ تكلّم فبالله ، وإنْ نَطقَ فعن اللهِ ، وإن تحرَّك فبأمرِ اللهِ ، فهو باللهِ وللهِ ومع الله ) . (39) أمّا ذو النون المصريُّ ( رحمه الله تعالى ) فإنَّه يقول إنّ للهِ عباداً مَـــلأَ قلوبَهــم من فيضِ محضِ محبَّتِهِ ، وفَسَح أَرواحَهم بالشوقِ إلى رؤيته). (40)
ويقول الأستاذُ محمّدُ الراشد إنّه الحبُّ ، فبِالحُبِّ الإلهيِّ وحدِهِ يحيا الصوفـيُّ،لذلك كان هاجسَهُ الأبَديَّ السعيُ الحثيثُ إلى مَعرفةِ مَنْ يحبُّ).(41)
يقول السيد أحمد بن محمد ديركي الهاشمي في مَعْرِض شَرْحِهِ القصيدةَ العينـيَّةَ للشيخ عبد الغنـي النابلسيِّ ( رحمه الله )  (الحبُّ تفاعلٌ بين الأسماء الشريفةِ الحسنى والذات المقدَّسةِ عن الأفهام والتصاوير ، وأصلُ الحبِّ إشعاعٌ مبثوثٌ من الذات وهي {الحبيب} فالحبيبُ هو الاسم الأعظم الذي يبحث عنه كلُّ العلماءِ والعُبّادِ .
وليس الاسمُ مجرَّدَ لفظٍ فقط ، بل تفاعلٌ بين قطبين ، والقطبان موجودان في كلِّ شيء ، فما إنْ يتمُّ التفاعلُ حـــتّى يظهَرَ الحــقُّ ويَبْطُــلَ الفاني .


ولا يتمُّ التفاعلُ سوى بحبَّ النقيضين وإرجاعهما لأصلٍ واحدٍ انبعثا منه، وهو {الحبيب} فسِرُّه سارٍ في كلِّ الأجساد والأرواح والأشباح والأشياء من الذرَّة إلى المجرّة ، بل هو ذاته كلُّ هذا ، فلا موجودَ سواهُ ، ولا إله إلاّ الله .. وكلُّ شيءٍ قد أخذ من الحبيب ما قد أعطاه له الحبيب ، لذا تباينت أفهام كلٍّ من المخلوقات ، الواحد منهم عن الآخر ، ففهِمَ كلُّ مخلوقٍ الحُبَّ خلافَ الذي فهِمَهُ الآخرُ ، وتلك عموميَّةٌ على كلِّ الخلقِ والأشياءِ... :
1- فالسالبُ يَطلُبُ الموجِبَ لاستكمال الدائرةِ الكاملة .
2- والذكرُ يطلُبُ الأنثى ليستكملَ نقصَهُ ونقصَها بكمالهما معاً .
3- والصانعُ يطلُبُ المصنوعَ لأنَّه جِزءٌ منهُ ، أو من فكرِه أو جُهْدِه .
4- والروحُ تطلُبُ النفسَ لتقومَ بها في عالم الظهور .
5- والنفسُ تطلُبُ الهوى لاستكمالِ صراعِ البقاءِ والظهورِ والنسلِ .
6- والهوى يطلُبُ الطيّباتِ يُزيِّنُ بها ذاته ) . (42)


ولا محبَّة بغيرِ معرفةٍ تامّةٍ بمن تُحبّ ، فكلَّمَا عَرَفَ المُحِبُّ محبوبَه كلَّما ازدادت محبَّتُه له ، وإنّما تكونُ المحبَّةُ على قدَرِ المعرفةِ .يقول الإمام الغزاليُّSad(وأصل الحب لا ينفك عنه مؤمن لأنه لا ينفك عن أصل المعرفة ...اعلم أن المؤمنين مشتركون في أصل الحب لاشتراكهم في أصل المحبة ولكنهم متفاوتون لتفاوتهم في المعرفة وفي حب الدنيا إذ الأشياء إنما تتفاوت بتفاوت أسبابها )) .(43)
ثمَّ إنَّ هذه المحبَّةَ هي قَدّرٌ على العبدِ ، فالقلوبُ بين أُصبعين من أصابعِ الرحمنِ يُقَلِّبُها كيف يشاءُ ،كما نَصَّ الحديثُ الشريفُ : (( إنَّ القلوبَ بين أُصبعين من أصابع الرحمن يُقَلِّبُها كيف يَشاء )) .( 44) وفي هذا المعنى أقول :
فالحُسْنُ مًظْهَــــــــرُهُ والقـلبُ في يَدِهِ
والحُبُّ قِسْمَتُهُ ، مَنْ يَغْلِبُ القَدَرا؟
روحٌ تُحِبُّ ، وروحٌ يُسْتَهامُ بهـــــــــا
والروحُ واحدةٌ ، فاسْتعمِلِ النظَـــرا (45)


فالمحبُّ هو الروحُ ، لأنُّه لا يُتَصَوَّرُ حُبٌّ مِن مَيْتٍ البتَّةَ ، والمحبوبُ هو الروحُ أيضاً ، لأنَّ الموت ينهي هذه العلاقةَ ، فالمرءُ مهما بلغَ في حبِّ محبوبه لا يَستطيع أنْ يبيتَ معه ليلةً واحدةً وهو جُثَّةً هامِدةً لا روحَ فيها ، إذاً ، فالحبُّ للروح لا للجسدِ، والمحبُّ كذلك هو الروحُ وليس الجسدُ ، والروحُ في الكونِ واحدةٌ ، فمن المحبُّ ، إذاً ، ومن المحبوبُ؟ سؤالٌ يحتاجُ إلى نظرٍ .
يقول الأستاذُ محمدُ الراشد : ((ومِن هنا كان الحُبُّ السَرْمَدِيُّ هو الفناءُ في اللهِ ، إلى درجةٍ يمتلِكُ اللهُ فيها ذاتَ الصوفيِّ ليُعيدَ لَهُ ذاتَهُ ، بحَسَبِ مَوقِفِ الجُنيدِ ، وهذا الإحساسُ لا يمتلكُهُ الصوفيُّ إلاّ عَبْرَ الوَجْدِ المُتعالي ، دُخولاً في حالاتِ الانْخِطافِ الرُّوحيِّ والانْفتاحِ على الكونِ ، رُقْيّاً إلى المحبوبِ الأسْمى )). (46)
فلا بد من العشق في طريق الحق ليصل الطالب إلى السر المطلق و ((مجرد الأمنية مَنيّة ، والسفينة لا تجرى على اليبس )) كما قالت السيدة رابعة العدويّة ( رضي الله عنها) والحبَّ على ثلاثةِ أقسام:
ــ الأوّلُ إلهيٌّ : وهو حبُّهُ ( تعالى ) إيّانا لنفسِهِ وحُـبُّهُ إيّانا لنا ، فأمّا حُبُّهُ (تعالى) إيّانا لنفسِهِ ، فحتّى نعبُدَه ونَعرِفَه ، قال ( تعالى ) في كتابِه العزيز:
(وما خلقتُ الجنَّ والإنس إلاّ ليعبدون) . (47) الآية ، والعبادةُ طاعة ، والطاعة لا تكون إلا بعد معرفة ولا تكمُلُ ألاّ بالمحبّة ، ويقول اللهُ تعالى في الحديث القدسيِّ : (كنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببتُ أن أُعرفَ..) (48) إي ليصير الإنسان مظهراً للصفات الكمالية الإلهية. أي : فخلقت الخلق ليكونَ مرآةً أشاهِدُ فيها جمالي .
فما خَلَقَنا اللهُ إلاّ لنفسِهِ لنعبُدَه ونعرِفَه ، وأَمّا حبُّهُ لنا فبما مَنَّ علينا من نِعْمَتـيِّ الإيجادِ والإمدادِ وما عرَّفنا إيّاه ، ممّا فيه مصالِحُنا وسعادتُنا في الدنيا والآخرة.
ــ الثاني روحاني : وهو أنْ يكونَ هَمَّ المحبِّ رضا محبوبه ذاهلاً عن رَغَباتِ نفسِه ومَصْلَحتِها ، ومنه حبُّ السيّدةِ رابعةَ العدويّة {رضي الله عنها} التـي تقول :
أحببتُك حبّين حُبَّ الهوى وحبّاً لأنَّك أهلٌ لذاكـــــــا
وتقول أيضاً : ( والله ما عَبَدْتُكَ حُبّاً بجنَّتك ولا خوفاً من نارِك ولكنْ عَبَدْتُكَ لأنّكَ تستحقُّ العبادة) (49) ذلك لأنَّها استغرقتْ في حبَّها للحقِّ، {جلَّ وعلا} ، وشهودِ عَظَمَتِه فلم تَشْهَدْ سِواه ، ولم تلتفتْ إلى ثوابٍ ولا إلى عقابٍ ، لأنَّ الإحساسَ بلَذَّةِ شهودِهِ {سبحانَهُ}حَجَبَها عن كلِّ إحساسٍ ، وفي مثلِ هذا قال سلطانُ العاشقين ، عمرُ بنِ الفارض { رضي اللهُ عنه } :
ليس سُؤْلي من الجِنانِ نَعيماً غيرَ أَنّي أُحِبُّهــــــــــا لأراكا
فإنَّ همَّهُ الوحيدَ هو رؤيةُ محبوبِه ، فهو يحبُّ بحبّهِ كلَّ ما يَخصُّهُ،أو يُشبِههُ في
شيءٍ ، أَو يَلوذُ بِهِ ، أو يَصْدُرُ عنه ، وعلى ذلك أفئدةُ سائرِ المحبّين المخلصين عُشّاقِ الحضرةِ الإلهيّة .

فالحبُّ إذا استولى على قلبِ المحبِّ طهّرَهُ من أيِّ وُجودٍ لغيرِ المحبوبِ ، لأنَّ نارَ حُبِّهِ تُنقّي القلبَ وتصفِّيهِ من كلِّ الأدْرانِ والشوائبِ، كما تَصهَرُ النارُ الذَهَبَ فتُحْرِقُ الشوائبَ وتُنظِّفُهُ من الخَبَثِ ، ثم إنّ للحبِّ من الأحوالِ والأحكام ما ليس للعقلِ ، بلْ إنَّ العقلَ لا يَقبلُ الكثيرَ من أحوالِ المحبّين ، ولا يوافِقُ عليها. يقولُ أبو العبّاسِ الكَسّاد{رحمه اللهُ }(الحُبُّ أَمْلَكُ للنفسِ من العقول )) . (50) وقالوا لا خيرَ في حُبٍّ يُدَبَّرُ بالعقل ، من ذلك ما وقعَ لنا ذاتَ ليلةٍ ، حيثُ رأيتُ مجموعةً من الكلابِ مقبلةً من حَيِّ مَنْ أُحِبُّ ، فأَبصرتُ فيها جمالاً أَخّاذاً وشَعرتُ نحوَها بحبٍّ لم أعهدْهُ مِن قبلُ ، فأطْعَمْتُها وسَقَيْتُها ، وقلتُ في ذلك :
أحببتُ في حبِّها أقوامَهـا النُجَبــــا
ومَن لأَقوامِها قد كان مُنْتَسِبـا
حتّى الكلابُ إذا مَـــــــــرَّتْ بحيِّهِـــــــمُ
فإنَّ حُبّي لها،يا صاحِ، قد وَجَبــا
وقد كَرِهْــتُ الأُولى لم تَهْــوَ فاتنـتـي
حتّى ولو كَرِهَتْ أقـواميَ العَرَبـــــــــا
أحببتُ في حبِّها الأحجارَ ،وا عَجَبي
وذُقتُ في عِشقِهـــا الأهوالَ والعَجَبا
فاليومُ إنْ حَدَّثتْني فيــــهِ كانَ لـــــــــــــهُ
ما لليـالي التي تَقْــديسُهــــا طُلِبــــــــــــا (51)
وقد سبقنـي إلى ذلك الكثيرُ الكثير من العشاق حيث قال أحدهم: أحب بنـي القوام طرّاً لحبِّها ومن أجلها أحببت أخوالهَا كَلْبا (52)
أمّا قيس بن ذَريحٍ فيقول :
وداعٍ إذْ نحـن بالخيف من مِنًى
فهيّـج أشجانَ الفؤادِ وما يَدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنّمــــــا
أهاج بليلى طائراً كان في صَـدري (53)
ومثلُ هذا كثيرٌ في سِيَرِ العاشقين ، ورحم الله الشيخ عيسى البيانوني الذي كان يختم كلّ خماسيّةٍ من خماسيّاته بقوله ( جنوني في محبَّتكم فنون ) لأنّ الجنونَ فنونٌ ، يقول:
جمالُكُمُ لقدْ مَــلأ الوُجودا فهـــامَ العـــارفونَ بهِ شهودا
وعقلي غاب مَن لي أنْ يعودا تَناهَبَـــــــــهُ التَوَلُّهُ والشُجونُ
جنوني في محبَّتكم فُنــونُ
غدوتُ بفضلِكم لكُمُ جليسا وقُمْتُ لأهـــلِ وِدِّكُمُ رئيسـا
لموتى حُبِّكمُ قد صِـرتُ عيسى فإحيـاءُ القلوبِ بكم يهـــونُ
جنوني في محبَّتِكم فُنـــــــــونُ
يقول ابن عربي واصفاً المحبّة المفرطة : ( فإنّها تذهب بالعقول وتُورثُ النُحولَ ، والفكر َالدائمَ ، والهمَّ اللاّزمَ ، والقلقَ ، والأَرَقَ ، والشوقَ ، والاشتياقَ ، والسُهادَ ، وتَغَيُّرَ الحالِ ،وكُسوفَ البالِ ، والوَلَهَ ، والبَلَهَ).(54)


ويَذكر أمراً في الحبِّ غايةً في الطرافة،وهو استشرافُ النفوس للحبِّ،وهو أنْ تَشعُرَ بحالِةِ حُبٍّ شديدٍ دون محبوبٍ مُعيَّنٍ ، ثمَّ تراهُ بعد ذلك فتعرِفُ أنَّ هذا هو المحبوبُ الذي شُغفتَ بهِ قبلَ أنْ تَراهُ ، وهذا الحالُ مِن استشرافِ النفسِ الأمورَ قبلَ حُصُولها في الواقع ، فكثيراً ما يشعرُ الإنسانُ بحالٍ من القبضِ دونما سببٍ حاضر ، ثمَّ يقع له ما يَكرهُ ، فيعرفُ أنَّهُ سببُ حالِ القَبْضِ الذي شَعَرَ بِهِ ، ويقع مثلُ ذلك في حال البَسْطِ ، حيثُ تَسْتَشْرِفُ نفسُكَ الأمرَ قبل حُصولِهِ ، فتَفرحُ وتَنْبَسِطُ دونما سببٍ ظاهرٍ ، في حينِهِ ، إنّما يَقَعُ بعد ، وذلك لاسْتشرافِ النفسِ الأمورَ مِنْ قبلِ تكوينِها في تَعَلُّقِ الحواسِّ الظاهرةِ ، وهي مُقَدِّماتُ التكوين، ويُشبِهُ ذلك أخذَ الميثاقِ على الذُريَّةِ بأنَّهُ {سبحانه}ربُّنا، فلم يَقْدِرْ أحَدٌ على إنكارِهِ بعدَ ذلك ، فتجِدُ في فِطرةِ كلِّ إنسانٍ افتقاراً لمُوجودٍ يَسْتَنِدُ إليه وهو اللهُ ، ولا يشعرْ به . ولهذا قال : (يا أيُّها الناسُ أنتمُ الفقراءُ إلى الله ..)(55) يقولُ لهم ذلك الافتقارُ الذي تجدونَهُ في أنفُسِكم مُتَعَلَّقُهُ اللهُ ، لا غيرُهُ ولكنْ لا تَعرفونَه ، يقول :
عُلِّقتُ بمن أهــــواهُ عشـــــرينَ حِجَّــــةً
ولم أدرِ مَنْ أهــوى ولم أعرفِ الصبْرا
ولا نظَرتْ عينـي إلى حُسْنِ وجهِهـــا
ولا سمعتْ أُذنايَ قــطُّ لهـــــــا ذِكـــــرا
إلى أن تراءى البرقُ من جانبِ الحِمى
فنَعَّمَنـي يـومـــاً وعَـــــــــــذَّبني دَهْــــــــــرا (56)
ويعتبر الشيخ الأكبرُ هذه الحالةَ ألطف ما يكون من المحبّة ، وهي أسما وألطف من حُبِّ الحُبِّ وهو الشغلُ بالحُبِّ عن مُتعلّقِهِ ، كما حصلَ لمجنون ليلى حين أعرضَ عنها شغلاً بحبِّها ، وقد سبق ذكرُها.
وهذا ما قد يبدوا غريباً مُسْتَهْجَناً في زمنٍ طَغَتْ فيه المادةُ ، ونَدَرَ فيه إخلاصُ المحبين ، حتى الحُبُّ الماديُّ الشهوانيُّ ــ وهو القسم الثالث ــ فقد قلَّ وجودُه ، في زمنٍ عُبِدَ فيهِ الدولارُ إلهاً من دون اللهِ ، فهو عندهم اليومَ الهدفُ المنشودُ والغايةُ القصوى ، وإليه يتوجَّه الاهتمام وبه تتعلَّق القلوب، وإذا أحبَّ امرأةً فإنما يحبُّها حبَّ البهائمِ ليروّي غريزتَه ويُطفئَ نارَ شهْوته وحَسبُ ، فإذا قضى منها وطره ، شغل عنها بمعبوده (المال) وإذا أحبَّ رجلاً فلأنَّهُ ذو مالٍ أو جاهٍ ليفيد من مالِهِ أو جاهِهِ ، فإذا انتهتْ حاجتُه إلى ما عنده انتهى حُبُّهُ ، وربمّا انقلبَ الحبُّ بغضاءَ وكراهيةً ، وقد حذَّرَ الرسولُ الكريمُ من هذا الوباء ورغَّبَ بالحبِّ الخالي من المنافع ، المترفِّعِ عن البهيميّةِ فقال ...وأنْ يُحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّه إلاَّ لله ) (57) كما جاء في الحديث القُدْسيِّ الذي رواه الرسولُ الكريمُ عن ربِّ العزّة ، فقال : (المتحابّون في جلالي لهم منابرٌ مِنْ نورٍ يَغْبِطُهم النَبيّون والشُهَداء).(58)وقرَّر بأنَّه من السبعة الذين سيظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلاّ ظلُّه ورجلان تحابّا في الله،اجتمعا عليه وتفرّقا عليه ).(59)
فما بالكَ إذا حدَّثتهم عن الحبِّ الإلهي وأحوالِ هؤلاءِ العاشقين ، فأنت كمن يتحدّثُ بلغةٍ غير مفهومةٍ أو كأنّكَ تتحدَّثُ بالألغاز والطلاسم أو تقرأ قصيدةً حَـداثيَّـةً لشاعرٍ مُحدِث .
وهذا ابنُ الفارض ، سلطانُ العاشقين {رحمه الله} يُبيّنُ لنا أَخطارَ المحبَّة وينبّه إلى أَضرارِها وما تسبِّبه للمحبِّ من أمراض وأسقام ، ومع ذلك فهو ينصحنا بأن نحبَّ وبأنّ نخالفَه ، قائلاً :
هو الحبُّ فاسلم بالحشا ما الهوى سهل
فمـــــا اختاره مضنًى به وله عقـــــــــــــــــــــــــل
واعلم بأنّ الحبَّ أولـــــــه ضــــــــــــــــنًى
وأوســــــــــــطه سقماً وآخره قتــــــــــــــــــــــــلُ
نصحتك علمـــــــــــــاً بالهوى والذي أرى
مخالفتي فاختر لنفــسك ما يحلــــــــــــــــــــو


والمحبّون ، برأي الشيخ الأكبر ، على نوعين : طائفةٌ منّا نظرتْ إلى المثال الذي هو في خيالها من ذلك الموجودِ الذي يظهرُ محبوبُه فيه ، ويُعاينُ وجودَ محبِوبِه ، وهو الاتصالُ به في خيالِهِ ، فيُشاهدُهُ متّصلاً به اتّصالَ لُطفٍ أَلطفَ منه في عينِه ، في الوُجودِ الخارجِ ، وهو الذي اشْتغل به قيْسٌ المجنونُ عن ليلى حين جاءتْهُ من خارجٍ فقال لها :{ إليْكِ عَنّي} لِئلاّ تَحْجُبُه كثافةُ المحسوسِ منها عنْ لُطفِ هذه المُشاهدةِ الخَياليَّةِ ، فإنّها أَلْطَفُ منها في عينِها وأَجملُ ، وهذا المحَبَّةُ ، وصاحبُ هذا النَعْتِ لا يَزالُ مُنَعَّماً ، لا يشكو الفِراقَ .. فإنَّ مِثْلَ هذا في المحبّين عزيزٌ لِغَلَبَةِ الكَثافَةِ عليهم .
وسببُ ذلك عندنا أَنـَّهُ مَن اسْتفرغَ في حُبِّ المعاني المجرّدةِ عن الموادِّ فغايتُهُ ــ إذا كَثَّفها ــ أَنْ يُنْزِلهَا إلى الخَيالِ ، ولا يَنْزِلُ بها أَكْثَرَ ، فمَن كان أكثفَ حالِهِ الخيالُ فما ظنُّك بلطافتهِ في المَعاني؟ والذي هذا حالُهُ يمكنُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ فإنَّ غايتَهُ في حُبِّهِ إيّاهُ ــ إذا لم يجرِّدْهُ عن التشبيهِ ــ أَنْ يُنزِلَهُ إلى الخَيالِ، وهو قولُهُ {عليهِ الصلاةُ والسلامُ }: {اِعْبُدْ رَبَّكَ كأنَّكَ تَراهُ} فإذا أَحببْنا ــ ونحن بهذه الصفةِ ــ مَوْجُوداً ، فإنّما نُحِبُّ ظُهورَ مَحْبوبِنا فيهِ ، مِن المحسوساتِ {عالمَ ِالكثافةِ} ونُلَطِّفُهُ ، بأنْ نَرْفَعَهُ إلى الخَيالِ، لنكسوَهُ حُسْناً فوقَ حُسْنِهِ ، ونَجْعَلَهُ في حَضْرةٍ لا يمكنُهُ الهجرُ مَعَها ولا الانْـتِقالُ عنْها فلا يَزالُ في اتِّصالٍ دائم :
ما لمجنــون عامرٍ في هــــــواهُ غير شكوى الابتعادِ والاغْتِرابِ
وأنا ضِـــــدَّه فـــــــإنَّ حبيبي في خيالي فلم أَزَلْ في اقتـرابِ (61)


ولي في هـذه الحالِ من لَطافةِ الخيالِ ، حيث يكون المحبُّ أبعد ما يكون عن الكَثافَةِ ، فلا يَضيقُ به أحدٌ ، بل لا يَشْعُرُ أحدٌ بوجوده البتّةَ ، غيرُ سُلطانِ عِشْقِهِ ، وفيضِ مشاعِرِه ، ونقاءِ حِسِّه ، وطُهْرِ طَويَّتِه ِ، وطِيبِ أُنْسِهِ، أَقول:
أُسافرُ والخَيــــالُ سفينُ روحي أطيرُ بِــهِ إلى مرسى الأمـــانِ
إذا مـا النفسُ ســاورَهــا مرامٌ ظَفِرْتُ به ولم أبرحْ مَكــاني
فلا كفٌّ تُشــيرُ له فيَــــــأتي ولا أَحتــاجُ تحريكَ اللِّســانِ
وإنْ أحببتُ حِبّاً ليس يَدري بحُبّي ، أو إذا خِلٌّ جفـــاني
رحلتُ إليه أو حَمَلَتْـه كفّي فنلتُ مُرادَ نفسي في ثَوان
لطيفٌ لا يُشاهدني رقيبٌ سريعُ الخطوِ إنْ أُطْلِقْ عِناني
خفيٌّ عن عذولي ليس يـدري بسرّي غـــيرُ ربّي مَـنْ بَراني (62)


وقد سمعتُ شيخَنا العارف بالله الكبير ، الشيخ عبد الرحمن الشاغوري {رحمه الله تعالى } يُردِّدُ ، أكثر من مرّة ، عبارةً للإمامِ : الحارثِ الُمحاسبـيِّ {رحمة الله عليه}فيقول : ( ما قادك مثلُ الوَهْمِ)، لِذلك فنحن نُلَطّفُ المحبوبَ فنَرفَعُهُ منْ عالَمِ الحِسِّ إلى عالَمِ الخيالِ بل ربّما لم نَرَهُ بعـينِ الحِسِّ البتّةَ، فنحبُّهُ ونعشقُهُ ونجالسُهُ ونسامرُه فنتلَّذذُ بوصالِهِ ، فنُروّي جوارحَنا ونُرهف حِسَّنا ومشاعرَنا، ونسمو بأنفُسِنا وعواطفِنا ، (وهو أي المحبوب) لا يدري بنا أبداً ، ولا غايةَ لنا من ذلك سوى أنْ تَرِقَّ قلوبُنا وتسموَ أرواحُنا بالحبِّ الذي هو غذاؤها، ومبرِّرُ وجودِها ، وهل في ذلك من محظورٍ ؟ وهل على الخيالِ من رقيبٍ أو حسيب ؟ وفي ذلك أقول :
إن كان حبُّك يا فريــدةُ حُلْما فلْيُمْسِـكِ اللهُ الصبــاحَ لَديْــهِ
أو كان تقبيلي خيـــالَك جُرْمـــا فلْيُغْلِقــوا كلَّ الدُروبِ إليـهِ
أو كان عشقُكِ في فؤادي سَهْمَا فلْتنطبقْ كلُّ الضلـــوعِ عليْـهِ
مَن كان قلبـي في يديْـهِ رهينـــةً فعواطفي ومشـاعري بيديهِ (63)
فأنا ما نظرتُ فريدةَ ، هذه ، أبـداً ، ولا اجتمعت بها مطلَقاً ، ولا خاطبتُها إلاّ في خيالي ، وهل في ذلك من حرج ؟ وهل عليَّ من بأس؟
ومن ذلك ما رُويَ عن عاشقِ أمِّ عمرٍو : فقد حُكي عن الجاحظ أنه قال ألفت كتاباً في نوادر المعلمين وما هم عليه من التغفُّل ثم رجعت عن ذلك وعزمت على تقطيع ذلك ، فدخلت يوماً مدينةً فوجدت فيها معلماً في هيئة حسنة فسلمت عليه فردّ عليّ أحسنَ ردِّ ورحّب بي ، فجلست عنده وباحثتُه في القرآن فإذا هو ماهرٌ فيه ثم فاتحتُه في الفقه والنحو وعِلم المعقول وأشعارِ العربِ فإذا هو كامل الآداب ، فقلت : هذا والله مما يُقوّي عزمي على تقطيع الكتاب ، قال فكنتُ أختلف إليه وأزوره ، فجئتُ يوماً لزيارته فإذا بالكُتّاب مغلق ولم أجدْه ، فسألت عنه فقيل مات له ميّت فحزن عليه وجلس في بيته للعزاء ،فذهبت إلى بيته وطرقتُ الباب ، فخرجت إلي جارية وقالت ما تريد؟ قلت : سيّدَك فدخلت وخرجت وقالت: باسم الله ، فدخلت إليه وإذا به جالس ، فقلت: عظّم الله أجرَك ، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، كلُّ نفس ذائقةُ الموت ، فعليك بالصبر ، ثم قلت له: هذا الذي توفي ولدُك؟ قال: لا ، قلت: فوالدُك ؟ قال: لا قلتُ فأخوك ؟ قال: لا ، قلت: فزوجتُك؟ قال: لا ،فقلت: وما هو منك ؟ قال: حبيبتـي ، فقلت في نفسي هذه أوّلُ المناحس ، فقلت : سبحان الله ، النساءُ كثيرٌ وستجدُ غيرَها ، فقال: أتظنُّ أنّي رأيتُها ؟ قلتُ وهذه منحسة ثانية ، ثمّ قلت: وكيف عشقت من لم ترَ ؟ فقال: اعلم أنّي كنتُ جالساً في هذا المكان وأنا أنظر من الطاق إذ رأيت رجلاً عليه بُرْدٌ وهو يقول:
يا أُمَّ عَمْرٍو جزاكِ اللهُ مكرُمةً رُدِّي عليَّ فؤادي أينما كانا
لا تأخذين فؤادي تلعبين بِهِ فكيف يلعب بالإنسان إنسانا
فقلت في نفسي لولا أنّ أمَّ عمرو هذه ما في الدنيا أحسن منها ما قيل فيها هذا الشعر فعشقتُها فلما كان منذ يومين مرَّ ذلك الرجل بعينه وهو يقول:
لقد ذهب الحمارُ بأمِّ عَمْرٍو فلا رجعت ولا رجَـعَ الحمارُ
فعلمت أنها ماتت فحزنت عليها وأغلقت المكتب وجلست في الدار ، فقلت: يا هذا إنّي كنت ألّفتُ كتاباً في نوادركم ــ معشر المعلمين ــ وكنتُ حين صاحبتُك عزمت على تقطيعه ،والآن قد قوّيتَ عزمي على إبقائه وأوّل ما أبدأ أبدأ بك إن شاء الله تعالى.(64) وظنُّنا بأنَّ هذا المعلِّم من أولئك العُشّاق الذين نتحدَّثُ عنهم ، عشّاق الروح لا عُشّاق الجسد ، غير أَنّ الجاحظ لا درايةَ له بهذه الأحوال ، وإلاّ لما كان صنّفَ ذلك العاشق ، الذي سَبَقَ أنْ شهِدَ له برجاحة العقلِ وسَعَةِ العلم ، في المجانين ، نعم قد يأخذُ الحبُّ القلبَ فيطيش العقلُ فيتكلم اللسان كلامَ مَن جُنَّ أو خُمِرَ أو غلى دمُه أو أُغشى عليه وإذا كان مثلُ هذا العالم النبيهِ مجنوناً ، فمن العاقلُ إذاً ؟
ولقد ذكر ابن حزمٍ في كتابه الشهير (( طوق الحمامة)) هذا النوع من العشق بقوله ( من غريب أصول العشق أن تقع المحبة بالوصف دون المعاينة)) . (65)
لكنَّ الناسَ يطلقون هذه الصفةَ ـ أحياناً ـ على كلِّ مَن خالفَ طبعُه طباعَهم، وأتى بما لم يعتادوا عليه ، ولا يستطيعونه ، ويكفي هؤلاء شرَفاً أنَّ سيد العقلاءِ محمَّداً بن عبد الله {عليه الصلاةُ والسلامُ } قد أطلق عليهِ كُفّارُ قريشٍ هذه الصفةَ وقالوا يا أيها الذي نُزّل عليه الذِكرُ إنّكَ لمجنون) (65)مكرر لأنّهُ إنّما أتى بما لم يأتِ بهِ بشرٌ ، وكذلك الشعراءُ المبدعون الذين يبدعون ما لا يستطيعهُ عامّةُ الناسِ ، فإنَّ الناسَ غالباً ما يصمونَهم بالجنون ، وكثيراً ما يصف الناسُ الزهّادَ والعبّادَ الذين يبلغون في زهدهم وعبادتهم وتضحيتهم في سبيلِ الله ، ما لم يَبلغْهُ أكثرُ الناسِ ، كثيراً ما يتهمونهم بالجنونِ ، ولذلك جاء في الحديث الشريف أكثِروا ذكرَ اللهِ حتى يقولوا مجنونٌ ) (66) . والذكر علامة الحبّ فمن أحبَّ شيئاً أكثر من ذكره . يقول أحد المحبّين :
عجبت لمن يقول ذكـرت ربي وهل أنسى فأذكر من نسيت أموت إذا ذكرتك ثم أحيــــــا ولــولا ماءُ وصـلِك ما حَييتُ
فأحيـا بالمنى وأموت شوقــــاً فكم أحيــــــا عليك وكم أموتُ
شربت الحب كأساً بعد كأسٍ فمـا نَفِـدَ الشراب وما رويتُ (67)
وفي هذه الحالةِ يَتَعَشَّقُ المحبُّ روح َمحبوبِهِ وربّما أَلبَسَها مِنَ حُلَلِ الجمال وعباءات الكمالِ والصِفاتِ المُثلى ما لا تَتّصِفُ بِهِ في الواقعِ ، ورُبَّما اكْتَشَفَ أنّ محبوبَهُ بعيدٌ كلَّ البُعدِ عن هذه الصفات التي صوّرَها لهُ خيالُهُ ، وفي ذلك أقول:
راحت تُقَطِّفُ أطيافاً من الغَلَسِ وَلْهى ، تُلَمْلِـمُ أشتاتاً لِمُنْـدَرِسِ حَرَّى فؤادٍ وما عهدي به كَلِفاً بلْ كِدْتُ أَحْسَبُهُ ثَلْجاً من القَرَسِ
عتْبى عليَّ ! فــــــلا والحُـبِّ ما خُلُقي
هَجْــرُ الحبيبِ ولا وِدّي بمُنْعَــــــــكِسِ
هذا الغرامُ فكوني طوعَ شِرعتِــــــــــــــــــهِ
أو فاستعدّي لثـــــــأرِ الحُبِّ واحترسي
إنّي اصطنعتُكِ من وهمي مقدَّســـــــــــــةً
إني غسلْتُـــــــك يا سُعدى من الدَنَسِ
إنّي جعلتُــــــــك في محراب صومعتـي
طُهراً يُلازمُ خَفْقَ القـــلبِ كالنفسِ
عتْبى عليَّ وكنتِ الهَـــــمَّ يَسْحقنـي؟
ها قد بَرِئْتُ من الأوهامِ والرَجَسِ (68)


وقد حدَّثتنـي فتاةٌ ، يوماً ، أنَّها تحبُّ الأدبَ والأُدباء كثيراً ، لكنَّها تُحُبَطُ كلَّ ما اقتربت من أديبٍ ، أو عَرَفتْ واحداً منهم عن كثَبٍ ، لأنَّهُا لا تجدُه كما كانت تتصوَّرُ ، فأجبتُها بأنَّ الذي في خيالها هو من عالم المثالِ لا عالَمِ الواقع ، من عالم الروح لا عالم البشر . وفي الحب الروحي يقول الشيخ الأكبر في فتوحاته:
أحببتُ ذاتيَ حُبَّ الواحـــدِ الثاني
والحُبُّ مـنّي طبيعيٌّ ورُوحـــــــاني
والحُبُّ منـهُ إلهيٌّ أَتَـتـْــــك بِــــــــــــــــهِ ألفــاظُ نُورِ هُـــــــــدًى في نَصِّ قُرآنِ
فغــــايةُ الحُبِّ في الإنسانِ وَصْلَتُــــــــــــهُ
رُوحـاً بِروحٍ وجِثْمــانا بجِثمــــــــــــــــــانِ
إنْ لم أُصَوِّرْهُ لم تَعلِـــــــمْ بمن كَلِفَتْ
نَفْسي وتَصويرُهُ رَدٌّ لِبُرْهـــــــــــــــــــــانِ (69)
المهمُّ أنْ يرقَّ قلبُ الإنسانِ ، ويَرْهُفَ حسُّهُ ، فيتغلَّبُ عالَمُ لطافتِهِ على عالَمِ كثافتِهِ ، ويعرُجَ خيالُهُ بِروحِهِ في عوالمِ الحُبِّ ويترقّى في مدارجِ الشوق والوجد .
والحبُّ مقدَّرٌ على الإنسان ليس بيده جلبُه ولا دفعُه لما جاء في الحديث الشريف عن الرسول { صلى الله عليه وسلم }أنّه قال (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)). (70) وقالوا بأنّ الأرواح عندما خلقها الله في عالَم الذَرّ ِ،كان منها المتقابلُ ومنها المُتدابرُ ، فما تقابَلَ في عالم الذَرِّ تآلف في الدنيا ، وما تدابر هناك تجافى هنا ، واستناداً إلى هذا الحديث الشريف والحديث الآخر الذي يقول فيه المصطفى{عليه الصلاةُ والسلامُ} القلوبَ بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبها كيف يشاءُ ) . (71) قلت :
فالحسنُ مظهـــرُه والقلبُ في يــــــدِهِ
والحبُّ قسمتُه،من يغلب القَدَرا؟
وفي ذلك يقول بَكر بن البطّاح:
وعلى القلوب من القلوب دلائلٌ بالودِّ قبــلَ تشاهد الأشباح (72)
ثمّ يقول الشيخ الأكبر { قُدِّسَ سِرُّه } : ( اِعْلم ، وفَّقَكَ اللهُ ، أَنَّ الحُبَّ
مَقامٌ إلهيٌّ فإنّه وصَفَ به نفسَه وتَسمّى بالودودِ ، وفي الخبرِ ، بالمحبِّ ومما أوحى الله به إلى موسى {عليه السلام } في التوراةِ : (يا ابنَ آدم إنّي، وحقّي ، لك محبٌّ ، فبِحَقّي عليك كنْ لي محبّاً {73} ).(74)
وكثيرة هي الآيات القرآ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
المرأة في الغزل الصوفي (3) عبد القادر الأسود
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» المرأة في الغزل الصوفي (1) عبد القادر الأسود
» المرأة في الغزل الصوفي (2) عبد القادر الأسود
» المرأة في الغزل الصوفي (4) عبد القادر الأسود
» المرأة في الغزل الصوفي (6 ) عبد القادر الأسود
» المرأة في الغزل الصوفي (5 ـ 1) عبد القادر الأسود

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
إنســـانيــات .. نحـو عـلم اجـتماعى نـقدى :: 
منتدى المكتبــات المتخـصـصـة
 :: 
مكتبات متخصصة متنوعة
 :: 
مكتبة اللغة العربية وآدابها وفنونها
-
انتقل الى: