إنســـانيــات .. نحـو عـلم اجـتماعى نـقدى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

إنســـانيــات .. نحـو عـلم اجـتماعى نـقدى

خطوة على طريق الوعي
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 منظومتنا الثقافية بين المقاومة والإبداع، والتبعية والاتباع

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
د. فرغلى هارون
المدير العـام

د. فرغلى هارون


ذكر عدد الرسائل : 3278
تاريخ التسجيل : 07/05/2008

منظومتنا الثقافية بين المقاومة والإبداع، والتبعية والاتباع Empty
مُساهمةموضوع: منظومتنا الثقافية بين المقاومة والإبداع، والتبعية والاتباع   منظومتنا الثقافية بين المقاومة والإبداع، والتبعية والاتباع Empty2/10/2009, 10:38 pm


منظومتنا الثقافية
بين المقاومة والإبداع، والتبعية والاتباع
بقلم: محمد سعيد طالب

دراسة نشرت بمجلة الفكر السياسى، اتحاد الكتاب العرب بدمشق، العدد 31، السنة العاشرة، صيف 2008.

نقصد بالمنظومة الثقافية: مجموع النشاطات الفكرية، والفنية، والأدبية، والأخلاقية، والسلوكية بما فيها الموروث الثقافي والعادات والتقاليد التي تشكل فيما بينها نظاماً يضمها، ويجمعها في إطار معين ومحدد يُضاف إليها الأدوات، والآليات، والأساليب، والمناهج، والصناعات التي بها، وعن طريقها تعبر وتفصح عن روح الأمة، وأهدافها، وغاياتها.‏
ـ 1 ـ‏
منذ مطلع القرن التاسع عشر تعاني ثقافتنا من صراع بنيوي بين تراثنا الثقافي العربي ـ الإسلامي الموروث، وبين المنظومة الثقافية الأوروبية الحديثة؛ التي وصلت إلى الوطن العربي بشكل غزو مسلح بقيادة نابليون بونابرت؛ القائد الفرنسي المشهور. وظلت مفاعيل الصدمة التي أحدثتها لدى النخبة من رجال الدين من العلماء، والعقلاء، والفضلاء الذين شكل منهم نابليون الديوان كمجلس استشاري للحكم الذاتي، أو ضمهم إلى أعضاء المجمع العلمي؛ الذي اصطحبه معه إلى مصر، من كبار علماء فرنسا عصرئذٍ، ظلت تتفاعل، وتتردد أصداؤها كما يعلمنا عبد الرحمن الجبرتي1754 ـ 1822م المؤرخ المعاصر للحملة الفرنسية على مصر في كتابه (عجائب الآثار في التراجم والأخبار). فيقول في أخبار 1213هج 1798م (وهي أول سني الملاحم العظيمة والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور، وترادف الأمور، وتوالي المحن، واختلال الزمن، وانعكاس المطبوع، وانقلاب الموضوع، وتنام الأهوال واختلاف الأحوال)(1).

لقد أدرك العلماء والعقلاء المسافة الكبيرة؛ التي تفصل بين الثقافة العربية الإسلامية؛ التي كانت سائدة عندهم وبين الثقافة التي جاء بها الفرنسيس أو الفرنجة، كالفارق بين تسلح العامة بالنبابيت والعصي وتسلح عسكر بونابرت بالمدفعية والبنادق التي تطلق الرصاص، وبين كتبهم المخطوطة باليد وكتب الفرنسيين التي تطبعها المطبعة التي اصطحبها بونابرت معه إلى مصر. وانطلاقاً من تلك اللحظة، كانت المواجهة بين ثقافتين ثقافتنا الموروثة التي تستند إلى: تراث الثورة العربية الإسلامية بقيادة النبي محمد والخلفاء الراشدين من بعده، والعصر الأموي، والعصر الأول العباسي، عصر الإبداع والبناء الحضاري والثقافي، أي: الفترة الممتدة من 610م السنة التي أعلن النبي فيها دعوته إلى الإسلام حتى القرن الثالث الهجري ـ العاشر الميلادي؛ الذي سماها المؤرخون والمفكرون العرب الحديثون بعصر التأسيس والتدوين. هذا التراث المؤسس والجذر الذي تميز في ذاكرة الأجيال بأنه جمع صفات الكمال، والأصالة، والعبقرية، وفيه برزت هوية الأمة، ورسالتها العقائدية والإيمانية الدينية، والعقلانية الفكرية والثقافية واللحظات الإبداعية في الحضارة العربية ـ الإسلامية. ثقافة الأصول والفروع، الممارسة الثورية، الديموقراطية والشورى، والعقلانية النقدية؛ التي أسست الدولة العربية ـ الإسلامية، وصاغت نظريتها الشرعية والفقهية، وأنشأت مؤسساتها القانونية (الدواوين، والجيش، والقضاء، والولايات، والاقتصاد، والإدارة..). وحررت البلاد العربية من الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية، واستكملت وحدتها السياسية واللغوية والتشريعية، وقامت بإحداث ثورة فكرية، وثقافية، وعلمية، وتربوية، وتعليمية في شتى مناحي الحياة، مخرجة الإنسان العربي المسلم المزود بوعي إنساني عال بالمسؤولية لتحقيق وتطبيق شريعة الإسلام الإلهية على الأرض: الإعمار، والعدل، والمساواة (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك ميت غداً). وقد اعتدنا أن نتكلم عن هذه الثقافة، وكأنها منظومة عضوية واحدة، متصلة منذ ذلك التاريخ حتى العصر الحديث. ولكنها شهدت كما يخبرنا التاريخ، وكما تتحدث هي عن نفسها انقطاعات وتحويلات رئيسة في موضوعاتها، وأهدافها، وغاياتها، كما أصابها الانحطاط والركود في مراحل أخرى، ولذلك كان من المهم دراستها في حركتها والحفر في طبقاتها لتحديد المحتوى الرئيس لكل مرحلة وانقطاع في تاريخها، وهذا ما حاولت أن أشير إليه في بحثي هذا.‏

ثم جاءت حقبة تاريخية جديدة، وحدث أول انقطاع عن الحدث المؤسس؛ لينتج ثقافة كان جوهرها الحفاظ على ما سبق إنجازه ولذلك سميت ثقافة التقليد والمحافظة، عنوانها إغلاق باب الاجتهاد في الأمور العقائدية والفقهية باكتمال ما أجمع عليه الفقهاء والسلاطين أنه المذاهب، أو المدارس الفقهية الكاملة، بعد تدوينها كمرجعيات مؤسسة. هي ثقافة حقبة الانهيارات السياسية والاقتصادية، وسيطرة العساكر المرتزقة على الخلافة العباسية، وانقسام وتجزئة الدولة الواحدة، وقيام أكثر من خليفة ودولة وإمارة في البلاد العربية والإسلامية. هي ثقافة الركود والجمود والأزمان الصعبة، والانحطاط السياسي، والحروب الأهلية، والثورات الاجتماعية، والطوائف المتصارعة على الدين الإسلامي وعلى السلطة، وعلى التاريخ والجغرافيا. وقد تقدم فيها فرع الفلسفة والمنطق والعلوم الفلكية والرياضية والهندسية والطبية والجغرافية؛ التي شكلت رافعة للعقل العربي العلمي. جرى من خلاله البحث عن أفضل السبل للخلاص من حالة الفوضى السياسية السائدة، والصراعات الدينية والقومية والطبقية؛ التي سادت في هذه الحقبة، فاستغلتها القبائل البدوية الخزرية والتركية والتركمانية والخوارزمية، ثم التترية التي شرعت بالهجوم على الجناح الشرقي للدولة العربية، ووصلت إلى العراق مركز الدولة وقلبها لتدمره بالنهاية1258م. وقد ترافقت مع الهجوم الذي شنه الفرنجة على الدولة العربية في الأندلس، وانتقل بجحافله إلى بلاد الشام ومصر والمغرب العربي في حملات متتالية طيلة أكثر من قرنين من الزمن ـ الثاني والثالث عشر الميلاديين ـ تحت اسم الحروب الصليبية. وكان من نتيجة هذه الأحداث الجسام إنتاج أيديولوجيات جديدة استعارت من الفلسفة اليونانية، ومن التراث الإسلامي، والتراث الديني السابق، أفكاراً سياسية ودينية وفلسفية؛ هدفها بناء دولة جديدة تقوم على أسس إمبراطورية غير عربية، هدفها تقويض الدولة العربية، والثقافة العربية، وهيمنة الإسلام كدين وثقافة على الحياة السياسية والفكرية، والعرب كأمة على الدولة: مثل رسائل إخوان الصفا التي حُررِت في القرن الرابع الهجري ـ العاشر الميلادي ـ. ومع أن الثقافة العربية المؤسسة ظلت هي القاعدة؛ إلا أن ثقافات أخرى استعادت هيمنتها في مناطقها الأصلية ـ الثقافة الفارسية في بلاد فارس وخراسان وما وراء النهر، وثقافة الأمازيغ في شمالي أفريقية، وصارت لغاتها تنافس اللغة العربية في الإنتاج الثقافي، وفي الإدارة، وفي دواوين الدولة، وفي تأليف الكتب والمنظومات الشعرية مثل شاه نامة الفردوسي، التي ألفها بالفارسية في بلاط السامانيين في الري، وكتابات المهدي محمد بن تومرت مؤسس الدولة الموحدية في المغرب العربي. وفي هذه الظروف والشروط السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولدت ثقافة سياسية، جوهرها الخضوع والإذعان لأصحاب الشوكة، والعصبية، والقوة من المتغلبين؛ الذين يستطيعون حماية رعاياهم، وحفظ الأمن في ممالكهم وإماراتهم، ويدافعون عنهم ضد الغزاة الطامعين. وهكذا نشأت ألقاب السلاطين والملوك والأمراء من القادة المرتزقة والعساكر المماليك؛ الذين يشتريهم هؤلاء ويجندوهم في كتائب وأفواج، ويقومون بتدريبهم كعساكر محترفين، وهم أرقاء، ويظلون كذلك حتى يحررهم مالكوهم، فيتحولوا إلى مرتزقة يحملون اسم سيدهم، وأول من كون مثل هذا الجيش هو الخليفة المعتصم بن هارون الرشيد العباسي. وهؤلاء هم الذين شكلوا الجيوش التي واجهت الغزاة الصليبين، والتتر، وانتصرت عليهم، وحررت البلاد العربية التي احتلها هؤلاء. وكانت في الوقت نفسه من أسباب التخلف، وانحطاط الثقافة العربيةـ الإسلامية.‏

لقد نمت طبقة ثقافية فوق الطبقتين المؤسسة والمقلدة هي ثقافة الحكام العساكر؛ الذين تحالفوا مع الفقهاء الأشاعرة منذ عهد الدولة السلجوفية، ووزيرها نظام الملك، ومع زعماء الصوفية الفرعين؛ اللذين ورثا الثقافة العربية الإسلامية، تقوم على قاعدة موت الإنسان السياسي العربي، وخضوعه لسلطة دولة عسكرية مملوكية من جهة، ولسلطة دينية تتوسل بالثقافة المؤسسة التي حولتها إلى تراث مقدس لتبرير شرعيتها، وشرعية السلطة التي تتحالف معها، وأعادت تفسيرها وتأويلها لخدمة هذه الغاية. وصار هدف هذه المنظومة الثقافية البحث في التراث المدون شرحه وتفسيره والكتابة في مسائله وتحويله إلى مقدس، ومنع الاجتهاد فيه، وشن الحرب على كل من تصنفه خارجاً عليه وعليها إما بتصفيته على أنه خارجي، وقتله بالسيف، وإما بحرق كتبه ومؤلفاته على أنه صاحب بدعة. كما جرى لفكر الخوارج والمعتزلة والفرق العقلية الأخرى والفلاسفة منذ عهد الخليفة المتوكل على الله العباسي. وأكملت الثقافة العثمانية، بفرعيها العسكري والصوفي وأد تراث الثورة العربية الإسلامية المؤسس والمدون، وأزاحت اللغة العربية من الإدارة الحكومية، ومن التجارة لتحل محلها اللغة التركية العثمانية، ولتجعلها لغة تراثية طقسية.‏

إن العملية التاريخية التي جرى فيها الاستيلاء على المنظومة الثقافية العربية الإسلامية من قبل أهل الحديث، وعلى رأسهم الحنابلة والحركة السلفية التي أسس لها هؤلاء بالتحالف مع الفقهاء في مواجهة المعتزلة والعقلانية الكلامية؛ التي شكلت تطويراً ثورياً على طريق النهوض بالفكر العربي ـ الإسلامي، وتأسيس فلسفة عربية ـ إسلامية، ونهضة علمية منذ عهدي الخليفة المأمون وأخيه المعتصم ابني الخليفة هارون الرشيد في القرن الثالث الهجري. هذه السلفية التي قادها فيما بعد الأشاعرة بالتحالف مع السلطنة السلجوقية، وقد صاغ الفيلسوف والفقيه والصوفي أبو حامد الغزالي منظومتها العقائدية بتوليفة فكرية، جمعت بين علم الكلام المعتزلي بعد تخليصه من قوانينه العقلانية وبين الفلسفة بعد تجريدها من مناهجها المعرفية الجدلية والعقلية، ومن الصوفية بعد وضعها في إطارها الفكري العربي الإسلامي بعيداً عن الإشراقية والمؤثرات الغنوصية. وكان من أبرز أعلامها تقي الدين ابن تيمية في القرن الثالث عشر في فترة الجهاد ضد الصليبيين والتتر. هذه السلفية هي التي شكلت ثقافة هذه الحقبة التاريخية الجهادية؛ التي واجهت فيها الأمة الغزو الصليبي ثم الغزو التتري، وانتصرت عليهما. وكان الفضاء مفتوحاً لاستعادة ثقافة عصر التأسيس، وحصول نهضة عربية إسلامية ثانية. ولكن نظام الإنتاج العسكري الإقطاعي؛ الذي تمكن في السلطة من خلال مواجهة الغزاة شكل عائقاً أمام أي تطور بهذا الاتجاه، وكان السبب الرئيس في منع قيام مؤسسات مدنية بقيادة الطبقة التجارية العربية، وحلفائها من الحرفيين، وبقية الأصناف المهنية لبناء دولة عربية ـ إسلامية جديدة تستجيب لحاجات التطور الاقتصادي والاجتماعي، وتطوير نهضة علمية واقتصادية، ومشروع حضاري جديد، للخروج من إطار الركود والتخلف(2). وأكمل الاحتلال العثماني للوطن العربي الهيمنة المطلقة لهذه الثقافة، فخرج العرب من التاريخ كأمة ذات سيادة أو دولة، وصارت ثقافتهم بجميع عصورها تراثاً يرجعون إليه لدراسته وحفظه من الضياع، والشروح على متونه وحواشيه للإجابة على مشاكله وإشكالياته في إطار المرجعية المؤسسة.‏

الثقافة العثمانية التي استمرت لأكثر من خمسمائة عام تجثم على وعي وفكر وثقافة العرب؛ الذين خضعوا لها كرعايا مغلوبين منذ بدايات القرن السادس عشر الميلادي بعد معركتي مرج دابق التي قتل فيها السلطان قانصوه الغوي من المماليك الجراكسة، وخليفته طومان باي في الريدانية 1516م. ثقافة جوهرها الخضوع والتبعية للسلطان العثماني الحاكم الأوحد سلطان البرين والبحرين، وحامي حمى الحرمين الشريفين؛ الذي استولى على منصب الخليفة العربي المنصوص عنه وعليه في كتب الفقه والإمامة والأحكام السلطانية المتوارثة. باختراعه أسطورة تقول: إن السلطان سليم الأول؛ الذي قضى على دولة المماليك الجراكسة في بلاد الشام ومصر 1516م قد تنازل له عن المنصب آخر خليفة عباسي كان المماليك يقيمونه في مصر بعد أن ذبح هولاكو التتري الخليفة العباسي المستعصم بالله 1258م. وأنه كتب بذلك وثيقة محفوظة في الأستانة(إستنامبول أو إسلام بول) عاصمة السلطنة العثمانية. ومنذ ذلك الوقت لم يعد الخليفة عربياً قرشياً كما جاء النص على ذلك في التراث الفقهي والسلطاني، بل صار عثمانياً. تقوم هذه الثقافة على تنظيم ممارسة السلطة الاستبدادية المطلقة على الرعايا في الداخل لضمان عبوديتهم، وتوزعهم على طوائف وملل وفق معتقداتهم الدينية، وعلى تقسيمهم إلى طبقات اجتماعية بحسب أصولهم الاجتماعية وأوضاعهم الاقتصادية: 1ـ إقطاعيين عسكريين من أصول عسكرية وأمراء قبائل وعشائر 2ـ تجار رأسمالين وكمبرادور من بيوتات مالية كبيرة ـ رعايا حرفيين وفلاحين وأجراء. يأتي السلطان ـ الخليفة عن طريق الوراثة للابن الأكبر، وهو الحاكم الأوحد المستبد الذي يجمع كل السلطات في يديه، وجيشه من الغلمان العبيد الذين يأخذهم السلطان كجزية أو يشتريهم من أسواق النخاسة على طريقة جيش المماليك الذي أسسه الملك الأيوبي الصالح ـ نجم الدين الأيوبي ـ في مطلع القرن الثالث عشر الميلادي ـ وسموا (الإنكشاريين،يني شري ـ الجيش الجديد ـ وتنحدر منهم البيروقراطيه الإدارية ابتداء من الصدر الأعظم والوزراء والولاة حتى أدنى مراتب الوظائف،) وإلى جانبه سلطة دينية يرأسها شيخ الإسلام في العاصمة ويتبعها القضاة والفقهاء ورؤساء الطرق الصوفية في الإمبراطورية، وإلى جانب هذا التقسيم الطبقي يأتي التقسيم على أساس الطوائف والملل الدينية، وإلى أجناس حسب أصولهم العرقية. تستند هذه السلطنة أو الخلافة الإمبراطورية إلى مركب ثقافي من الشريعة الإسلامية وفق عقيدة الأشاعرة ومن الأنظمة المقتبسة عن الفارسية والتركية، ومن الأعراف القديمة لقبيلة بني عثمان مؤسسة الدولة. الهدف الرئيس لها هو جباية الريع العقاري والضرائب والرسوم، وتأمين إعادة الإنتاج الاجتماعي بنفس الأساليب الموروثة، ومحاربة البدع وما يعتبر محدثاً في كل مجالات الحياة. فقد أصدر السلطان سليم الأول فرماناً في 1515م يقضي بإعدام كل من يثبت أنه يمارس مهنة الطباعة(في المطبعة التي اخترعها غوتنبرغ الألماني 1440)م. وفي أواخر القرن في عهد السلطان مراد الثالث 1574 ـ 1595م سمح بتداول الكتب غير العربية المكتوبة بأحرف عربية. وكانت أول مطبعة تركية 1726م أسسها مجري اعتنق الإسلام، فلقيت مقاومة من النساخ حتى أفلست. وكانت أول صحيفة رسمية تركية 1831م وأول صحيفة غير رسمية باللغة التركية 1840م. قال فرانسيس بيكون الفيلسوف الإنكليزي (إن الطباعة والبارود والبوصلة)غيرت كل الأشياء في العالم. وانتشار الطباعة سوف ينشر المعرفة، وسيرفض الناس العاديون الحكم الاستبدادي)(3).‏

يتبع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://social.alafdal.net
د. فرغلى هارون
المدير العـام

د. فرغلى هارون


ذكر عدد الرسائل : 3278
تاريخ التسجيل : 07/05/2008

منظومتنا الثقافية بين المقاومة والإبداع، والتبعية والاتباع Empty
مُساهمةموضوع: رد: منظومتنا الثقافية بين المقاومة والإبداع، والتبعية والاتباع   منظومتنا الثقافية بين المقاومة والإبداع، والتبعية والاتباع Empty2/10/2009, 10:50 pm


تابع
منظومتنا الثقافية
بين المقاومة والإبداع، والتبعية والاتباع
بقلم: محمد سعيد طالب
ـ 2 ـ‏
وأما التراث المقابل فهو تراث النهضة الأوروبية الحديثة منذ القرن الخامس عشر الميلادي، ويشمل: الثورة العلمية، والاكتشافات الجغرافية اكتشاف العالم الجديد في القارتين الأمريكية والأسترالية، والإصلاح الديني، والثورة الفكرية، ونشوء العلمانية، وتفكيك الخطاب الديني الكنسي، ونشوء الفلسفة الحديثة مع ديكارت واسبينوزا، والفلسفة الحسية الإنكليزية مع لوك وهوبز وباركلي، ثم فلسفة الأنوار العقلانية الفرنسية مع فولتير، وكتاب الموسوعة ديدرو ودلامبير وكوندوروسية، ونشوء نظام الإنتاج الرأسمالي والثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، ثم الثورات السياسية ابتداء بالثورة الإنكليزية ضد الملوك 1648م والثورة الفرنسية 1789م والفلسفة الألمانية العقلانية المثالية ـ كانت وهيغل وفيخته وشوبنهاورـ والمادية ـ كارل ماركس ـ والثورات في أوروبة في القرن التاسع عشر، وقيام الدولة القومية الحديثة ذات السيادة، على مبادئ وقواعد الليبرالية والديموقراطية والعلمانية دولة المواطنة الحرة، وحقوق الإنسان الأساسية، والدستور والقوانين والإرادة العامة، كما نظَّر لها هوبز في كتابه لوياثان، وجان جاك روسو في كتابه (العقد الاجتماعي)؛ التي أوجدت أنماطاً جديدة للحقوق والواجبات، وأعادت توزيع السلطات بين المؤسسات الحديثة، والسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في الدولة، بما يلبي صعود الطبقة البرجوازية الطبقة الثالثة بفروعها الصناعية والمالية والزراعية والتجارية. وعن هذه التطورات في مجالي الدولة والاقتصاد والإنتاج الرأسمالي نشأ الاستعمار والغزو الأوروبي المنظم والمطرد للعالمين الجديد والقديم لاستعمارهما والاستيلاء على ثرواتهما وتفكيك مجتمعاتهما أو إبادتها إن قاومت كما حصل للهنود الحمر في القارة الأمريكية، أو تحويل السكان فيهما إلى جيش عمل لإنتاج المواد الزراعية الخام أو المواد الغذائية أو المنجمية بأرخص الأسعار. وتطور الاستعمار إلى إمبريالية عالمية وسوق عالمية. فنشأت الحروب بين الدول الأوربية على المستعمرات، ومناطق النفوذ والمواد المعدنية، والمنجمية، والطاقية، والاستراتيجية. وكان الوطن العربي تحت السيطرة العثمانية من جملة بلاد العالم القديم التي تقاطعت فيها مصالح أكبر إمبراطوريتين استعماريتين بريطانيا وفرنسا؛ اللتين تقاسمت النفوذ والهيمنة على الوطن العربي، ثم احتلاله أقطاره واحداً بعد الآخر منذ بداية القرن التاسع عشر.‏

كانت المواجهة بين ثقافتين: ثقافة الحداثة الأوروبية الغربية، وثقافة العرب الإسلامية الموروثة والقديمة. وجدت النخب العربية التي حملت عبء هذه المواجهة أن منظومتها الثقافية السياسية والعلمية؛ التي وصلت إليها في العصر العثماني عتيقة، وأن مؤسساتها القائمة في ظل الاستبداد العثماني متخلفة، ولا يمكن القتال بها فهي مفوتة. قد غُيب جانبها الإبداعي العقلاني منذ القرن الرابع الهجري ـ العاشر الميلادي ـ وقُضي على حاملها الاجتماعي من قبل نظام الإقطاعية العسكرية. وما لديها من زاد ثقافي للتصدي لهذا الغزو الجديد للفرنجة المزود بثقافة حديثة علمية، وبقوى مالية واقتصادية وصناعية وعسكرية، غير صالح وغير مكافئ، وقد بان تخلفه وعجزه منذ المواجهة الأولى. وحتى يمكن استخدامه بفعالية، فلا بد من إصلاحه عن طريق تجديد ما هو شائخ عفا عليه الزمن، وفات وقته. وطريق التحديث يمر عبر المثاقفة والاقتباس والتقليد والاستعارة والتعريب من ثقافة هذا العدو الغازي؛ الذي لا يخفي أهدافه في الهيمنة والسيطرة والاستعمار لحذف العرب كأمة وحضارة وثقافة من التاريخ إلى غير رجعة. فوجدت أن لا بد من الأخذ منه بما يتلاءم مع التراث الثقافي الموروث؛ ليكون الأساس الذي تتطلبه عملية النهضة والبعث والتجديد للعودة إلى التاريخ من جديد. وتواطأت هذه النخب على اتباع منهجية التوفيق والتلفيق لتحقيق هذه الغاية.‏

وانخرطت في عملية تاريخية لإحداث ثورة ثقافية وعلمية وفكرية تترافق مع عملية التحديث الجارية ببطء في المجال الاقتصادي المؤسساتي والتكنولوجي (استيراد الآلات والأدوات والمكائن الحديثة لإقامة مصانع ومعامل لإنتاج النسيج والمواد الاستهلاكية والعسكرية والحربية، وبناء سكك الحديد والقطارات، وصناعة السفن التجارية والبحرية، وتعبيد الطرق وإنشاء الموانئ والمرافئ الحديثة من أجل التجارة الدولية المارة في أراضيها، وبناء المدارس الحديثة بمختلف درجاتها حتى الجامعة، واقتباس مناهجها الحديثة). وساهمت في إنتاج أيديولوجيا الإصلاح والتحديث التي بدأها محمد علي باشا والي مصر بعد التحرر من الغزو الفرنسي، ومحاولة الإنكليز للحلول محله. فأنتجت سياسات التحديث في السلطنة العثمانية بعد محاولة محمد علي الإطاحة بها في عهد السلطانين محمود الثاني وابنه عبد المجيد الثاني، ومن تبعهما من سلاطين آل عثمان في القرن التاسع عشر، ومن المصلحين من جمعية تركيا الفتاة بزعامة مدحت باشا.‏

ـ 3 ـ‏
إن الإنتاج السلعي الرأسمالي الحديث، ونظام الاستهلاك المخطط لتلبية حاجات متزايدة ومصنوعة باطراد، تفرضها وتعممها السوق العالمية، هو الذي يحرك ويوجه اهتمامات ومصالح قطاعات واسعة من المجتمعات العربية؛ لتنخرط فيه جسداً وروحاً، وتتبنى معاييره وقيمه وأخلاقياته. فيطبع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بطابعه، وفق قوانين التبعية التي تحدد له ما ينتج وما يستهلك، وكيف يلهو، وماذا يتعلم ويعمل. وبالتالي ثقافة السوق التي تعيد توزيع وتقسيم العمل الاجتماعي. لقد شجع الخديوي إسماعيل في مصر زراعة القطن خلال الحرب الانفصالية الأمريكية في ستينيات القرن التاسع عشر لتلبية طلب مصانع النسيج الإنكليزية؛ التي كانت تعتمد على القطن الأمريكي. فأحدث ثورة حقيقية في علاقات الريف الإنتاجية ـ الاجتماعية. إذ حول الفلاحين إلى عمال زراعيين والخديوي والطبقة الحاكمة إلى إقطاعيين. وجرى استبدال وتحويل المحاريث التي تجرها الثيران والخيول والجمال، إلى محاريث تتحرك بالبخار وبالكهرباء. وجرى إنشاء سكة الحديد واستخدام القطارات والبواخر. ونتج عنه إنشاء المدارس والمعاهد والانفتاح على الثقافة العلمية والتقنية المرافقة. فتغير نظام التعليم من الكتاتيب إلى المدارس الحديثة، وجرى إدخال الطباعة والصحافة لتقوم بما يشبه الثورة في العلاقات العامة، إذ عممت الأخبار السياسية والعامة، وأصبحت السياسة مسألة نخبوية ومن ثم جماهيرية. وهكذا يمكننا أن نرصد آثار تحولات نظام الإنتاج، وتطورات التكنولوجيا في كل مرحلة من تقدم الرأسمالية العالمية نحو عصر جديد في حياة المجتمعات التابعة.‏

إن استثمارات النفط منذ ثلاثينيات القرن العشرين في العراق، والمملكة العربية السعودي، وإمارات الخليج العربي، وتصاعد استخراجه من قبل كارتل شركات النفط الكبرى الأمريكية والإنكليزية، وزيادة استهلاكه، وحلوله محل البخار كوقود رخيص في وسائط النقل الجوي والبري والبحري، وطاقة محركة في المعامل والمصانع، وكمادة أولية في الصناعة. قد غير بشكل جذري نمط حياة وأسلوب إنتاج وثقافة العربي في هذه الأقطار من البداوة إلى حياة التحضر والتمدن. لتصبح الثقافة المتوارثة تاريخاً لتمجيد الذات وتأثيلاً لعراقة الأسر الحاكمة، والطبقات الملحقة فيها، ولتبرير احتكارها للسلطة، ولحماية عروشها التي صارت نافلة نتيجة هذه التحولات الجذرية في طبيعة واقتصاد وثقافة السكان؛ الذين غادروا إلى غير رجعة حياة البداوة والترحال بحثاً عن الكلأ والمرعى، إلى حياة الاستقرار والزراعة والصناعة والتجارة، وانخرطوا في مؤسسات التعليم من المدارس الأولية، فالابتدائية، فالثانوية حتى الجامعة، والدراسات الأكاديمية العليا داخل بلدانهم وخارجها، ليشكلوا طبقة وسطى، وبيروقراطية الدولة، وأجهزتها القمعية، والأمنية، والجيش، والشرطة، والحرس الوطني.‏

لقد شكل الاستعمار والإمبريالية والسوق العالمية للرأسمالية ثلاثية متواطئة تستخدم القوة العسكرية، وهيمنة الرأسمال، والتكنولوجيا، والثقافة الحديثة، وأيديولوجيا السوق لتعيد صياغة ثقافة ونمط حياة الشعوب في المستعمرات، وتجعلها تابعة لخدمة مصالحها الاقتصادية والسياسية، وسيطرتها الكونية من خلال تحكمها بالمال والصناعة والتكنولوجيا والقوة العسكرية، وبالقوة الناعمة، أي: الثقافة العلمية والسياسية والفنية، كما يحلو لبعض علماء الاجتماع أن يسميها.‏

ـ 4 ـ‏
لقد تحددت عتبات اللقاء وعتبات الافتراق بين التراثين الثقافيين على أرض الواقع قبل أن تتجسد في مفاهيم نظرية. وفي خضم علاقات غير متكافئة أفرزتها طبيعة وجوهر ثورة التحديث والحداثة الأوروبية الغربية؛ التي كان محركها الأساس فتح العالم، وجعله في ملكيتها كأمم متفوقة وغالبة من خلال الاستعمار المباشر بالقوة العسكرية ومن خلال السوق العالمية التي شكلها نظام الإنتاج الرأسمالي. وشرعت بنشر ثقافتها في أنحاء العالم القديم والحديث بما أبدعته في مجال العلم والفلسفة والآداب والموسيقا و الفنون، وبما وضعت من معايير وقيم جمالية وأخلاقية تمجد الفردية والذاتية. تجسدها نزعة عرقية تتدعي التفوق على الأمم الأخرى بحسب عالم الاجتماع ماكس فيبر(الألماني) الذي يتساءل مفاخراً(لم لا يتجه التطور العلمي والفني والسياسي والاقتصادي إلا في أوروبا على دروب التعقل الخاص بالغرب، إذاً فالصلة بين الحداثة والعقلانية الغربية هي صلة وشيجة وسمة أوروبية غربية. مع الإصلاح الديني تفككت التصورات الدينية مما أوجد في أوروبة ثقافة لا دينية في إطار عملية عقلانية عبر الفاعلية الاقتصادية والفاعلية الإدارية في منظومتين ثقافيتين: المشروع الرأسمالي في الاقتصاد والجهاز البيروقرطي في الإدارة. وبذلك حدثت قطيعة جذرية مع الثقافات القديمة وصار معنى التحديث يشير إلى جملة سيرورات تراكمية يعني تحديث الموارد وتحويلها إلى رؤوس أموال ونمو القوى المنتجة المعبر عنه بزيادة إنتاجية العمل، بالإضافة إلى نشوء سلطات سياسية مركزية وتشكيل هويات قومية وظهور الدولة القومية الحديثة ذات السيادة على رعاياها وإقليمها، والمشاركة السياسية والعيش المدني والتعليم العام، وعلمنة القيم والمعايير.(4)‏

يقول هيغل الأزمنة الحديثة تتضمن: اكتشاف العالم الجديد وعصر النهضة الأوروبية والإصلاح الديني وهي العتبة التاريخية لافتراق التاريخ الوسيط عن التاريخ الحديث، والانفتاح على المستقبل هو بداية عصر تاريخي مستمر يبدأ الزمن المعاصر له مع عصر الأنوار والثورة الفرنسية، وما عبر ت عنه روح العصر من مفاهيم التطور والتقدم والتحرر، والحداثة بهذا المنظور تعي ذاتها، على أنها وعي ذاتها بمعيار ذاتها. لقد فك العلم الطبيعي سحر الطبيعة، وحرر الذات العارفة، فأصبحت الطبيعة مجموعة من القوانين المعروفة، بعد أن كانت قوى سحرية مجهولة مخيفة، فأصبح الإنسان يعيش في بيته بفضل ذلك العمل الإنساني الإبداعي(5) . الثقافة هنا بوصفها، علماً وتقنية... حقاً وأخلاقاً...فناً وتقدماً جمالياً...وفق معايير صورية يمنحها الشرعية في داخل هذه الحدود فصل الإيمان عن المعرفة(6). هذه المفاهيم حول الثقافة، لم تكن هي ما حرك النخب العربية نحو التحديث؛ لأن ما كان مطروحاً عليها مسائل عملية هي كيفية التصدي للغزو الذي تتعرض له أرضها وهويتها وتاريخها، ولنقل وجودها بالذات. وكانت الهزيمة في الميدان العسكري أمام تفوق المستعمرين هي ما دفع لإعادة النظر في الخطاب التاريخي الموروث. مصفوفة التراث العربي ـ الإسلامي في مواجهة تراث الحداثة الأوروبية الغازية. كان الرد الأولي هو المواجهة السياسية ـ ثقافة المقاومة الشعبية التي جاءت كرد فعل على الغزو واستراتيجيات الإبادة الاستعمارية والإمبريالية؛ التي تحركها ثقافة العنصرية، وتفوق الرجل الأبيض والعرقية البغيضة، وقد جسدتها حركة التحرر الوطني المكافحة من أجل التحرر من الاستعمار، والاحتلال الأجنبي المباشر للأرض العربية، ومن الإلحاق، والضياع، وتدمير الشخصية القومية والدينية للأمة العربية. ثقافة المقاومة والكفاح المسلح والثورة الشعبية هي موروث أصيل في ثقافة العروبة والإسلام، من أجل تأكيد الهوية في مواجهة الحذف والإلغاء، وعدم الاعتراف بالاختلاف من قبل المستعمرين ومشروعية ثقافة الآخر، وحقها في الوجود والتطور والنمو. وكان هذا هو الرد المتاح والممكن والضروري من أجل اليقظة والبعث والنهضة.‏
كانت النخب العربية التي تخرجت في معاهدة وجامعات الغرب الأوربي تعتقد أنها ستلقى فهماً أكثر عدالة لقضية أمتها، وتتوقع المساندة والمساعدة لتحقيق أمانيها في سبيل الخلاص من التخلف والاستبداد والظلامية التي تمثلها الدولة العثمانية.

وفي مساعيها لنشر الثقافة الحديثة المقتبسة، وتوطينها في الوطن العربي، وبناء الدولة العربية الحديثة بمساعدات اقتصادية ومالية وتكنولوجية وفنية غربية لتعميم أسلوب الإنتاج الرأسمالي، ونقل الثورة الصناعية إلى أرضها. وهذا ما نلمسه ونقرؤه لدى قادة النهضة وفي سلوكهم. وكان رفاعة رافع الطهطاوي المصري، وخير الدين التونسي رائدين في هذه المجال. وجاء بعدهما جمال الدين الأفغاني، و الشيخ محمد عبده. واضطر الشيخ للاستعانة باللورد كرومر المندوب السامي البريطاني، وحاكم مصر الفعلي لتنفيذ برنامجه لإصلاح التعليم في الجامع الأزهر ليكون في مستوى مناسب لاستيعاب العلوم الحديثة وتلبية حاجات التقدم والتنمية والدخول إلى العالم الحديث. وكذلك دعا القوميون العرب في كتاباتهم في بلاد الشام والعراق إلى ضرورة التعاون مع الغرب والاستفادة من خبرائه ومستشارية في حقول المعرفة كافة لبناء الاقتصاد والدولة العربية العتيدة. وفي قرارات مؤتمرهم الذي عقدوه في باريس 1913م تحت شعارات نهضوية، ومن أجل الاستقلال عن الدولة العثمانية وبناء دولة عربية موحدة. قد أكدوا على ضرورة الاستعانة بالدول الأوروبية المتقدمة وقتئذ الإمبراطوريتين الإنكليزية والفرنسية لتقديم المساعدات الاقتصادية والمالية والخبرات الفنية اللازمة للنهوض ببلادهم: وعقد معاهدات تتضمن الشراكة والتحالف والتبعية، معارضة الاستعمار والكفاح ضده بكل الوسائل من جهة، والافتتان بالفكر والثقافة اللذين أنتجنهما الأمم المستعمرة، والنضال ضد الاستبداد، والتوفيق بين الدين والعقل من جهة مقابلة. تقليد نماذج وليس اكتشاف مواقع جديدة للفكر والعمل. جاء في خطاب عبد الحميد الزهراوي رئيس المؤتمر(الغرب اليوم هو مقتدى الشرق ومهما أردنا أن نقول إنه يجب على الشرقي أن يحتاط فيما يريد أخذه من بدع الغرب. فإننا لا نستطيع أن ننكر إن عدم اقتباس الشرقيين شيئاً من وسائل حرية الغربيين فيه من الخطر أضعاف، أضعاف ما في الجمود على الحالات المعهودة. فالاقتباس لا بد منه وبذلك يكون واجباً..فالفريق القريب من السواحل أكثر احتكاكاً بالحضارة وأخذاً بالعلوم العصرية.....وإنما جئنا أوروبا ونريد أن يجيئها كثيرون منا لتكبر عقولنا وهممنا برؤية آثار العقول والهمم، جئنا أوروبا ليزداد علمنا في حضارتها وأساليب اجتماعها الراقي(7).‏

في الوقت الذي كانت فيه المؤسسات الثقافية الدينية الموروثة تؤكد على ضرورة الاحتماء بالتراث، وتنادي بالأصالة والعودة إلى ثقافة الجهاد في مواجهة الطوفان الاستعماري والإمبريالي؛ الذي بعث من مخلفات التاريخ القديم أسطورة ما سماه ضرورة إقامة وطني قومي لليهود في فلسطين بموجب وعد بلفور 1917م. وخلق الحركة الصهيونية اليهودية، واعترف بها كممثل شرعي لشعب يهودي قديم لم يكن موجوداً لا في التاريخ ولا في الجغرافيا، اللهم إلا في الأساطير، والملاحم الدينية القديمة.‏
يتبع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://social.alafdal.net
د. فرغلى هارون
المدير العـام

د. فرغلى هارون


ذكر عدد الرسائل : 3278
تاريخ التسجيل : 07/05/2008

منظومتنا الثقافية بين المقاومة والإبداع، والتبعية والاتباع Empty
مُساهمةموضوع: رد: منظومتنا الثقافية بين المقاومة والإبداع، والتبعية والاتباع   منظومتنا الثقافية بين المقاومة والإبداع، والتبعية والاتباع Empty2/10/2009, 11:18 pm


تابع
منظومتنا الثقافية
بين المقاومة والإبداع، والتبعية والاتباع
بقلم: محمد سعيد طالب


ـ 5 ـ‏
بين النفي والتلاؤم وبين المقاومة واستغلال الظروف لعقد صفقات في سبيل تحقيق النهضة، كان الواقع الاقتصادي والسياسي يتحول تبعاً لاستراتيجيات القوى العظمى صانعة الأحداث، وبرامجها الإمبريالية العسكرية والاستيطانية لبناء عالم جديد على أشلاء العالم القديم وخاصة في الوطن العربي التي تبينت أهميته كسوق واسع لسلع أوروبة الغربية المتقدمة، وكمصدر رئيس للطاقة والمواد الأولية بعد اكتشاف النفط فيه، وكمنطقة استراتيجية حساسة في قلب العالم القديم. إذاً كانت هناك محطات لقاء تمحورت حول ضرورة تحديث الفكر العربي بتحديث التعليم، واقتباس العلوم الحديثة، وتأسيس المدارس والجامعات، وتعميم الصحافة، ونقل التكنولوجيات الحديثة، والدخول إلى السوق الرأسمالية العالمية. الاستفادة من التقدم الصناعي والاقتصادي والمالي، والسعي لتعريب وزرع مؤسساته في الوطن العربي، والمشاركة في استثمار رؤوس الأموال الأوربية في استخراج الثروات الطبيعية المنجمية والنفطية. وتطوير الفنون والآداب بما يؤسس لثقافة عربية حديثة. وكان الافتراق والقطيعة والمواجهة في السياسة: الثورة والقتال ضد الاستعمار والغزو العسكري المسلح لتحرير البلاد العربية؛ التي أخضعتها الإمبريالية، واحتلها الاستعمار بلداً إثر بلد منذ مطلع الفرن التاسع عشر حتى مطلع القرن العشرين. لقد توطدت ثقافة المقاومة في هذا الجانب السياسي، بحيث طغت على كل الجوانب الثقافية الأخرى.‏


وقد أفرزت هذه المرحلة أيديولوجيا وطنية وقومية ثورية في البلدان المستعمرة، ومنها الوطن العربي(ثورات في سورية وفلسطين والعراق ومصر وليبيا والمغرب العربي، وخاصة بعد قيام دولة الاتحاد السوفييتي في أوكتوبر (تشرين الأول 1917) كأول دولة للاشتراكية العلمية الشيوعية الماركسية؛ التي راحت تنشر أفكارها في كل العالم بين الطبقات العمالية والفلاحية والجماهير الفقيرة في العالم الثالث. داعية إلى التحالف بين الطبقات العمالية في البلدان الرأسمالية، والأمم المضطهدة في العالم المستعمر مع دولة السوفيت للثورة ضد الاستعمار والإمبريالية والرأسمالية، من أجل الاستقلال والحرية وبناء الاشتراكية، والقضاء على الرأسمالية. الثقافة الجديدة كانت شعبية بكل المعايير، وحديثة أيضاً بكل المواصفات، جوهرها التنمية البشرية والاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وبناء دولة حديثة، وفق المبادئ الإنسانية والعلمية والقانونية؛ التي تستخدم أفضل التقنيات من تطوير القوى المنتجة وزيادة حصة الفرد العامل من الناتج الإجمالي، وتطوير الخدمات الصحية والتعليمية، والبلدية وكل ما يساهم في تطوير المجتمع لصالح الأفراد، وتطوير مشاركتهم في السلطة السياسية وإدارة وسائل الإنتاج الاجتماعي المملوكة للمجتمع في الريف والمدينة، ووضع ضوابط لاستخدام قوة العمل بما يتيح لكل فرد العمل والدخل المناسبين. ومن خلال الجمع بين مرحلتي التطوير البرجوازي ـ الديموقراطي ـ الرأسمالي الوطني والثورة الاشتراكية، تميزت الثقافة القومية الحديثة بأنها لم تكن ثقافة سياسية وحسب بل جمعت بين التراث العقلاني العربي النقدي وتراث الأنوار الأوربية في توليفة فكرية لتضع أساساً للنهوض القومي العربي والدخول في العالم الحديث بفعالية. ولكن السياسات الإمبريالية ومرحلة ما بعد الحداثة الرأسمالية، لم تدع لها الفرصة لتستكمل نموها فشنت عليها الحروب لتئدها وهي في مهدها.‏

فجرى اختراقها في نقاط استراتيجية أهمها فشل خطط التنمية الاقتصادية، وتحكم البيروقراطية في خياراتها، واحتكارها للسلطة وعجزها عن التحول نحو الدولة الديموقراطية، تخلف الثقافة نتيجة مصادرة الرأي الآخر، والتضييق على الحريات تحت ادعاء الحفاظ على أمن الدولة، فأصبحت البنى الفوقية عتيقة لم تعد تلائم التطورات الجارية في ميادين التكنولوجيا والبناء المؤسساتي للدولة الحديثة. فاخترقتها استراتيجيات التبعية الجديدة للشركات عابرة القومية ومتعددة الجنسيات؛ لتدمر ما أنجزته على طريق التحرر الوطني في المجالات الروحية والمادية. لتجعل نفي المعادل الموضوعي وموته وهو الإنسان في المجتمعات المتخلفة؛ التي تعددت تسمياتها في أدبيات العالم المتقدم؛ وفق نماذج تصنيف وتحديد منتجة في بلدان المركز الإمبريالي:الأمم المستعمَرة، والشعوب القديمة والحضارات البائدة، الدول على طريق التقدم، أو التطور اللارأسمالي، العالم الثالث أو النامي؛ فجعلت منها أنتروبولوجيا ثقافية واجتماعية لدراسة تاريخ ما قبل الرأسمالية. واستطاعت انطلاقاً من هذه الانهيارات، وتحت تأثير وضغط التحولات الاقتصادية والمالية والسياسية أن تفرض معاييرها؛ لتعيدها إلى بيت الطاعة وفق سياسات المركز الرأسمالي العالمي المهيمن على صناعة التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية الملائمة لعصر القفزات والثورات في أساليب الإنتاج الرأسمالي المعولم، وفرضت عليها التخلف، والعجز عن هدم الفجوة المعرفية، عندما أخفقت في صياغة برامج تحديث قادرة على تطوير البنى الفوقية والتحتية، وإدامة التنمية المستقلة كخيار استراتيجي للخروج من التبعية.‏

لعبت السوق العالمية والتجارة الحرة، والاستثمارات الرأسمالية، وسياسات الإقراض، وتوطين أنماط معينة من الإنتاج السلعي في الأطراف التي تريد الرأسمالية المعولمة أن تكون لها فيها مراكز مفتاحية في صراعها مع الاشتراكية، وحركة التحرر الوطني وثقافة المقاومة. وأن تؤسس مواطن للصناعات غير النظيفة، مستغلة اليد العاملة الرخيصة فيها وقربها من منابع الطاقة، وأن تنتج طبقة رأسمالية تابعة لتكون وكيلة، أو شريكاً صغيراً في منظومتها المعولمة؛ لتعيد إنتاج ثقافة ملائمة تبعاً لتلك المخططات. وفي هذا الفضاء المشحون بمسائل التحرر الوطني في الوطن العربي، وخاصة تحرير فلسطين من العدوان الصهيوني الذي اغتصب أرضها، وشرد شعبها منذ أكثر من نصف قرن الزمان، واحتل أراض عربية أخرى مهدداً المصير العربي كله، ومسائل التنمية الاقتصادية والهوية الثقافية، احتدمت الصراعات بين تراث الهوية العربية لإسلامية الموروثة ثقافة الأصالة والسلفية، وبين تراث الحداثة والعقلانية الليبرالية والديموقراطية الأوروبية؛ التي تحاول النخب الثقافية والاجتماعية والاقتصادية استيراده وتوظيفه لفرض هيمنتها على مجتمع ما زالت بنيته تستند إلى العلاقات ما قبل الرأسمالية، وهي تسعى للتوفيق والتأليف بين التراثين لبناء ثقافة ملفقة لا أساس مادي أو روحي لها في الواقع العربي. فتفاقمت الصراعات الطبقية والطائفية والمذهبية بين هيئاته ومكوناته، لتصبح المسألة الثقافية سياسية بامتياز. تضع برامجها وجدول أعمالها القوى الإمبريالية المهيمنة على الاقتصاد الرأسمالي العالمي، ومنظمات الشرعية الدولية؛ كما يحب منظرو العولمة ما بعد الإمبريالية أن يسموها ـ منظمة الأمم المتحدة ـ مجلس الأمن الدولي ـ البنك الدولي للإعمار والتنمية ـ صندوق النقد الدولي ـ وعشرات المنظمات المشابهة؛ التي تقوم بإصدار التقارير والمناهج والمعايير والمؤشرات الموجهة التي تلزم أقطار العالم الثالث بإعادة بناء هياكلها الاقتصادية، ومؤسساتها السياسية، والثقافية، والتكنولوجية؛ وفق تلك التعليمات، التي تصب في النتيجة في طاحون التبعية، وتنميتها، وترسيخ ثقافتها.‏

ـ 6 ـ‏
لقد كان لا بد من تفكيك خطاب النهضة الثقافي بعد هزيمة 1967م أمام العدو الصهيوني المحتل لفلسطين، لمعرفة أسباب الهزيمة والنكسة؛ التي أصابت ثقافة التحديث الاشتراكية وتصفية رموزها وخططها وأهدافها من قبل القوى الانفتاحية؛ التي جعلت استراتيجيتها السياسية القبول بالتبعية والانضمام إلى نظام العولمة الجديد؛ التي بدأت ملامحه ترتسم في الأفق الرأسمالي العالمي من خلال الشكل الجديد للمؤسسة الرأسمالية المتمثل بالشركات متعددة الجنسيات. تبين أن مناهج التحديث التي اعتمدت استراتيجيات التوفيق والتلفيق والاقتباس والتعريب لم تكن غير عملية تقليد، وإعادة تفسير وتوظيف لأفكار عصر الأنوار والثورة الفرنسية في التراث العربي الإسلامي بفرعيه العقلي والنقلي. فلم تكن المهام المناطة بروادها وطلائعها واضحة كبرامج يجب تحقيقها، ولا كموقع يجب احتلاله في منظومة الثقافة الحديثة. ولم تكن طبيعة العصر الاستعماري والإمبريالي وأبعاد الفكر الصهيوني، وعلائقه بالثقافة الأوربية الغربية موضوعاً للبحث الفكري والاجتماعي لصياغة استراتيجيات ثقافية لمواجهتها بمفاهيم، ومناهج علمية ملموسة. فقد كان الطابع السياسي والأيديولوجي والإعلامي هو الغالب في هذه الفترة. هم ضد الاستعمار ولكن مفتونين كما ذكرنا سابقاً بالفكر الأوروبي الحديث، وثقافة الديموقراطية والحرية والدولة الحديثة والصناعة المتقدمة، والفلسفة، والعلوم الحديثة. وظنوا أنهم باقتباسها، وإعادة شرحها، وتفسيرها وتعريبها يمكنهم اللحاق بمن سبقوا، ويمكنهم ذلك من جني ثمارها. وغاب عنهم أن قواها المحركة وديناميكيتها، بل لنقل أسرارها المؤسسة هي في الاقتصاد السياسي، في أسلوب الإنتاج الرأسمالي الحديث، والثورة العلمية والتكنولوجية والصناعية. وهنا كانت الإشكالية التي لم يعكفوا على فهم دلالاتها للوصول إلى عتبات الحقيقة المؤسسة في تلك الثقافة صانعة القيم والمعايير، وهي العمل المنتج والقوى المنتجة والرأسمالية كثقافة ونظام قيم وإنتاج. فكانت الانكسارات تتفاقم على المستويات السياسية والاقتصادية؛ لتزداد شروط التبعية رسوخاً، وثقافة التحديث انهيارات وتراجعاً على مستوى النخب، ناهيك عن تحول الجماهير عنها إلى الثقافة الموروثة الدينية والسلفية.‏

إن تراث الأنوار الثقافي تراث الفلسفة العقلانية النقدية، والديموقراطية السياسية، والليبرالية، والحريات العامة، وحقوق الإنسان الأساسية، والآداب والفنون الحديثة ما هو إلا بناء فوقي للرأسمالية كثقافة ونظام إنتاج اجتماعي واقتصادي وفكري في مراحلها المؤسسة. ولهذا ظل الخطاب الإصلاحي النهضوي العربي الديني والقومي والليبرالي والاشتراكي تبريرياً، ولم ينهض بالمهام الجوهرية المطلوبة ليكون بحثاً في المنهج والآساليب وروح العصر؛ ولذلك خنقته إشكالياته المعرفية؛ ليظل غاطساً في التراث يستمد منه مقومات وظيفته الأيديولوجية؛ ليلبسها أفكار التنوير والإصلاح. أسلوب الإنتاج الرأسمالي هو الذي شكل وظل يشكل البنى المؤسسة للثقافة الحديثة ودون معرفة شروط ومكونات وقوانين عمله في الواقع، لا يمكن تأسيس خطاب أيديولوجي لإصلاح البناء الفوقي الثقافي والفكري والقانوني والمؤسسي في الأقطار العربية. وبما أن التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية تشكل محتوى ثقافتنا الحديثة والمعاصرة، فإن الضروري في هذا المجال هو البحث في المنظومة الثقافية الأوروبية كتراث يجب استعادته في تشكيل وعينا الثقافي، وتكوين المفاهيم العلمية عن تاريخه؛ تبعاً لتطورات الرأسمالية كأسلوب إنتاج، ومعادلها في الأقطار العربية، لمواكبة التطورات العاصفة في بنيته، وتقصي مدى تغلغله في مجتمعنا العربي كعلاقات إنتاج اجتماعية، ونظام استهلاك وقيم ومعايير.‏

ـ 7 ـ‏
إن الإعادة والاستعادة لمنظومة التراث الثقافي التي شكلت النهضة الأوروبية الغربية، وتحويلها إلى ماركسية تاريخانية مؤولة، ومفسرة لثقافتنا، وتشكيل إطار نظري بالاستناد إليه لتأسيس حداثتنا ومطابقة وعينا للوقائع الجارية في وطننا العربي، وفي العالم من حولنا، كما اجتهد الدكتور عبد الله العروي في كتابه الإيديولوجية العربية المعاصرة الصادر في 1970م. وإعادة تفسير وتأويل وتفكيك ونقد بنية العقل العربي وتكوينه باستخدام أدوات ومناهج الإبستمولوجيا والبنيوية، والإنتربولوجيا البنيوية وعلم الاجتماع السياسي المقتبسة من فلسفات ما بعد الحداثة الأوروبية، التي قام بها الدكتور محمد عابد الجابري في كتبه المتعددة وبالأخص(تكوين العقل العربي، وبنية العقل العربي) ومجموعة المؤلفات التي ركز مؤلفوها على نقد الفكر الديني الإسلامي ـ الأشعري – د ـ صادق جلال العظم ود ـ نصر حامد أبو زيد وغيرهما ـ ومحاولة د. حسن حنفي في كتابه التراث والتجديد استعادة عقلانية المعتزلة لتجديد الفكر الديني، وتشغيله في توليفة فكرية حديثة حيث كتب يقول: (التراث هو الأصول هو نقطة البداية كمسؤولية ـ قومية ـ ثقافية. والتجديد هو إعادة تفسير التراث طبقاً لحجات العصر, والأصالة هي أساس المعاصرة، والتراث هو الوسيلة والتجديد هو الغاية)(Cool .

هذه المقاربات الفكرية لأكاديميين عرب من المغرب والمشرق العربيين لم تعمل إلا على تفكيك خطاب النهضة العربية الثقافي والسياسي، ولم تستطع في مرحلة ما بعد الحداثة والعولمة الرأسمالية الأمريكية أن تقدم البديل الثقافي لاستكمال عصر النهضة أو ما يدعو إليه بعض المفكرين الأكاديميين مثل د ـ طيب تيزيني ود ـ سمير أمين بضرورة فتح عصر نهضة ثانية؛ انطلاقاً من أفكار ومناهج حركة التحرر الوطني العالمية. فتطوير العقلانية العربية التراثية عقلانية المعتزلة والفلاسفة، وخاصة ابن رشد، وابن خلدون، أو عقلانية الأشاعرة كما صاغها الغزالي(أبو حامد الغزالي)، واستعادة منظومة الثقافة الثورية التي كرسها الإسلام بقيادة النبي محمد، والتي أسست لنهوض الأمة العربية، ودخولها التاريخ كأمة ذات رسالة ودين وثقافة إنسانية مجاهدة ضد الشرك والعبودية والطاغوت والظلم والشر والفساد في الأرض لتحرير الإنسان كذات وكشخصية من قيود الجهل والخرافة والأمية العقائدية؛ لفك السحر عن الطبيعة وجعلها بيت الإنسان الذي يجب أن يعرف قوانينه لبناء حياته الدنيا في الأرض تمهيداً لحياة الآخرة؛ ليقيم فيها العدل والمساواة تنفيذاً لميثاق الخلافة في الأرض الذي عقده مع الله، وحمل المسؤولية بعقله وروحه وجسمه كي يكتشف ويعلم ويعرف قوانين الطبيعة والحياة والاجتماع وقوانين تعقله وتأنسه. هذه الخطابات الأيديولوجية الكبيرة التي أنتجتها نخب حديثة إسلامية، وقومية عربية، وليبرالية، وماركسية، حاولت تطعيمها، أو لنقل تشغيلها بعقلانية الحداثة الأوربية(9)، وإعادة صياغة مكوناتها من خلال هذه العلاقة الفكرية والثقافية: عقلانية الاقتباس والتوليف والمقاربة لم ترتسم في الواقع كنظريات سياسية ـ ثقافية قابلة للتطبيق؛ لأن التطورات العاصفة التي أنتجتها الرأسمالية العالمية في ثوراتها العلمية والتكنولوجية والمؤسساتية والاقتصادية في النصف الثاني من القرن العشرين، غيرت ـ وبشكل جذري ـ تاريخ العالم المعاصر وخاصة بعد سقوط الاشتراكية ودولة الاتحاد السوفييتي أول دولة اشتراكية في العالم 1991م؛ لتعلن بناء النظام العالمي الجديد للرأسمالية في مرحلتها الرابعة، هذا من جهة. يضاف إليها من جهة أخرى اتساع وعمق العيب البنيوي؛ الذي أسس له خروج العرب من التاريخ في وقت مبكر من العصور الحديثة، لأكثر من 500عام، وما نتج عنه من تخلف وتجزئة وتفكيك، وغياب الحامل الاجتماعي صاحب المصلحة في حمل أعباء هذه العملية التاريخية. جعل الثقافة السياسية العربية والثقافة ـ بعامة ـ تترنح ما بين هذين الحدين، ولا تحرز انقطاعاً مؤسساً لحالة نهوض جديد‏

ـ 8 ـ‏
لم تكن المثاقفة غزواً في العصور السابقة للرأسمالية، وإن اتسمت شروطها في حقب تاريخية بما يشبه ذلك، حين انتصار أمة وهزيمة أخرى، وما يفرضه الغالب على المغلوب بالقوة العسكرية، وبقوة الأفكار التي يحملها، والتي يظن المغلوب أنها سبب هزيمته، فهو مكره على اقتباسها، وهذا قانون جار في الزمان والمكان، تحدث عنه عالمنا ابن خلدون وغيره من علماء الاجتماع الذين تابعوه، يستوعبه تاريخ الفكر والتكنولوجيا والعلم. نقرأ في حركته وصمته أزمة ثقافتنا العربية المتكسرة والمقموعة التي تشظت وانسدت آفاقها، واختلطت، وتداخلت أزمانها، ومكوناتها الأيديولوجية، وخطاباتها التاريخية والمعاصرة التي تارة تعمل على تحطيم العقل باسم التراث الإسلامي الأصيل، وتارة باسم الحداثة اللاعقلانية. فتتسع المساحات البيضاء التي تنتظر من يملؤها، ويكثر المحذوف والموقوف والممنوع من السلطات الأيديولوجية والسلطات الأمنية. فكيف لثقافة كهذه أن تصبح ثقافة النهضة والتغيير في عصر الرأسمالية؛ التي جوهرها التوسع والاستحواذ والهيمنة، والانتشار، لتفرض قيمها ومعاييرها للإنتاج والاستهلاك والتوزيع بوساطة السوق والتقدم التكنولوجي والعلمي وصناعة الثقافة وأدواتها وشبكة إعلامها ودعايتها؛ إذ تقوم أجهزة الاتصال والإيصال المتنوعة والتي تتنافس الشركات متعددة الجنسيات لاختراعها للوصول إلى المتلقين والمشاهدين والمستمعين؛ لإعلامهم بما لديها من سلع، ولتعيد صياغة أفكارهم ومفاهيمهم وفق استراتيجيتها ومصالحها الاستحواذية. في واقع كهذا تصبح الثقافة ساحة الصراع الرئيس وتتقدم على السياسة والاقتصاد في تشكيل الرأي العام . وهذا ما تضمنته نظرية المفكر الأمريكي صموئيل هنتنجتون في كتابه (صدام الحضارات و حروب الثقافات).‏

كتب نعوم تشومسكي: إن عولمة الاقتصاد سوف تفضي إلى فجوة اقتصادية متسعة، وركود اقتصادي متفاقم، وعدم استقرار سياسي، واغتراب ثقافي؛ مما سيسعر الاضطرابات والعنف في صفوف الفقراء والمعدمين والمهمشين(10). فقد حطمت قوى السوق العالمية الأسس المادية والروحية للثقافة العربية ـ الإسلامية الموروثة، وأطاحت برموزها؛ لتؤسس لثقافة السوق العالمية بكل معاملاتها وعلائقها وقيمها وأخلاقياتها. وهذا ما لم يلحظه المنظرون والمثقفون ورجال النهضة والإصلاح. إن الثقافة الحديثة تترسخ في الوعي واللاوعي الجماهيري والنخبوي، وتعيد تشكيل عقولنا ووعينا، غير عابئة بالموروث القومي والديني، وتقاليد وعادات المجتمع العربي، ومنظومة الثقافة، ولا بتقاليدها العقلانية النقدية الفلسفية، ولا بخطب رجال الدين ومواعظهم التي يرددونها في كل مناسبة. وهذا ما نتحدث عنه في مجالسنا الخاصة حول انهيار قيمنا وأخلاقنا، وانتشار الفساد والرشوة والنصب والاحتيال والتزوير والخداع والجري وراء المال لكسبه بأيّ طريقة.‏

في عصر العولمة، وهيمنة الشركات متعددة الجنسيات على اقتصاد وأسواق العالم، ودخول الصناعات الثقافية مرحلة متطورة لنشر ثقافة العولمة الحديثة وتصوراتها ومنظومتها الأخلاقية والقيمية؛ تبرز سياسة الثقافة القومية بمعناها الأوسع كأطر منطقية ومؤسسية للسياسة الثقافية؛ من أجل تحقيق الانسجام بين الثقافة والسياسة، ومنح الثقافة سقفها السياسي الخاص. ومع تطور تقنيات عولمة الوسائط مثل الفيلم والإذاعة والتلفزيون في القرن العشرين ـ تسعى السياسة الاقتصادية في جانب منها أكثر فأكثر إلى دمج الثقافة الشعبية في تلك المشروعات القومية لمقاومة أمركة الثقافة الجماهيرية، بينما تعمل الصناعات الإبداعية والأسواق الثقافية على نطاق عالمي لتعزيز الهيمنة الأمريكية بوساطة السينما ثم بواسطة الإنترنت، والوسائط المتعددة للسيطرة الأمريكية على الأسواق الثقافية.... وتمثل عولمة الأسواق الثقافية، تحدياً لأسس السياسة الثقافية من حيث إشارتها لانفصال السياسة القومية عن الثقافة، وعجز الحكومات القومية عن مواجهة تدفقات الاتصالات وتنظيمها، وصيانة الحدود الثقافية(11).‏
ـ يتبع ـ‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://social.alafdal.net
د. فرغلى هارون
المدير العـام

د. فرغلى هارون


ذكر عدد الرسائل : 3278
تاريخ التسجيل : 07/05/2008

منظومتنا الثقافية بين المقاومة والإبداع، والتبعية والاتباع Empty
مُساهمةموضوع: رد: منظومتنا الثقافية بين المقاومة والإبداع، والتبعية والاتباع   منظومتنا الثقافية بين المقاومة والإبداع، والتبعية والاتباع Empty2/10/2009, 11:28 pm


تابع
منظومتنا الثقافية
بين المقاومة والإبداع، والتبعية والاتباع
بقلم: محمد سعيد طالب

ـ 9 ـ‏
إن الوعي الشقي الذي يعبر عن أزمة الذات التابعة، يشير إلى حقيقة:هي أنها لا تملك وعياً علمياً عن مشاكل مجتمعاتها، ولا الحلول لإشكالياتها الفكرية المتراكمة أيضاً؛ لأنها مرتهنة لفاعل آخر هو الذي يفرض عليها وعياً زائفاً، ويحدد لها قضاياها ووسائلها وموضوعاتها وفق برامجه الإلحاقية، ومصالحه الاقتصادية والسياسية. هي غريبة في بيتها الذي هو الدولة التي حددها الاستعمار، وفرض عليها العيش والقبول بها، فرضيت بذلك بعد طول كفاح، متوهمة أنها تملك استقلالها ووعيها؛ الذي يؤهلها لإنتاج ثقافتها، وصناعة هويتها، وتقرير مصيرها. فتكتشف في الممارسة أنها مقيدة بقيود التبعية، وباستراتيجيات النظام العالمي القديم والجديد. وهي مضطرة للقبول بالمشاركة في المشهد الثقافي المشترك للعولمة، وأنها عالقة في شبكة الآراء المتفاعلة التي صنعتها التكنولوجيا المتقدمة. يعلن الرئيس الأمريكي بوش أهمية الشراكة في حرب الأفكار كاستراتيجية معولمة، تكمل عمل الشراكة في الحرب ضد ما يسميه بالإرهاب، والشراكة الاقتصادية ـ السياسية من أجل بناء نظام العولمة الجديد بقيادة الإمبراطورية الأمريكية. والغاية الاستراتيجية هي تدمير ثقافة المقاومة لهذه العولمة الأمريكية ثقافياً واقتصادياً وسياسياً، وبخاصة العربية ـ الإسلامية ضد الإرهاب الأمريكي –الصهيوني؛ مستغلاً ما تقوم به الجماعات الأصولية الإسلامية المتطرفة من رد فوضوي بقتل المدنيين المسالمين؛ فيما يسمونه دار الحرب، تحت شعارات ثأرية باسم الدين الإسلامي؛ الذي لا تقر شريعته ولا ثقافته ممارستها، وتعتبرها غلواً وخروجاً على جوهر التعاليم والعقائد المؤسسة له.‏

إن المثقف المنهك الذي يعيش في حالة من الضنك المادي والمعنوي في ظل سلطة استبدادية ـ شمولية تسيطر على وسائل الإعلام والنشر، وعلى وسائل الإنتاج الأخرى، وتمارس عليه الوصاية والرقابة وتحدد له الموضوعات المسموح له الكتابة فيها حتى يكسب عيشه، لا يقدر على البوح والتعبير عن أفكاره النقدية أو المخالفة، وإن تجرأ وفعلها تعرض للفصل من الوظيفة، أو سيق إلى السجن، ومنع من الكتابة لزمن غير محدد حتى ترضى عنه أجهزة الأمن التي تتحكم بمصيره، فهو لذلك مجبر على الدخول في قيود الهيمنة الأيديولوجية والخضوع لإملاءاتها، وترديد مقولاتها. وهذا هو السبب ـ كما يقول إدوار سعيد في (كتابه الثقافة) ـ والإمبريالية في إفقار الثقافة وبؤسها. ثقافة بلا حامل اجتماعي بسبب استراتيجيات التفكيك، والفتنة الطائفية والمذهبية والعرقية؛ التي تعمل الصهيونية العالمية وقاعدتها الدولة المحتلة في فلسطين ـ حليفة الرأسمالية العالمية في مراحلها المتطورة منذ بداية العصر الاستعماري، وشريكتها في مرحلة الإمبريالية والعولمة بعدها ـ على نشرها والتأسيس الفكري لثقافتها. وتسعى مع حليفتها الولايات المتحدة الأمريكية لتوفر لها كل الشروط والظروف والوسائل والمناهج والأشخاص والمؤسسات والمعاهد، ومراكز الدراسات والأموال، وإشعال الحروب إن لزم الأمر ـ الخارجية والداخلية ـ (حرب حزيران 1967م، والحرب الإيرانية العراقية 1980 ـ 1988م، وحرب تدمير العراق 1991م والحصار لمدة اثني عشر عاماً بعد ذلك. ثم الحرب الأمريكية –الإنكليزية لاحتلاله 2003م ). أو الحروب الأهلية( في لبنان1975 ـ 1991م ـ وفي السودان بين الشمال والجنوب، ثم بين الشرق والغرب، وأخيراً في دار فور.....وحرب الإسلاميين ضد الدولة الجزائرية.. والفتنة الطائفية في العراق بعد الاحتلال 2003م.).‏

ـ 10 ـ‏
الثقافة العربية الراهنة لم تعد موحدة القيم والمعايير، فقد صار لكل دولة وإقليم ما يميزه من ثقافة قطرية تركز أجهزة الإعلام والثقافة على نشره وتعميمه؛ كحاضنة لفكرة الإقليم الوطن النهائي المكرس في التاريخ والجغرافيا والممتد في الزمن بالاستناد إلى مكتشفات علم الآثار، وفي هذا تقويض للفكرة القومية العربية والدولة العربية الواحد، والثقافة القومية العربية المشتركة والانتماء إلى الأمة الواحدة، ودخول الثقافة كعامل في التجزئة والتفتيت (وإن كان البعض يعتبر ذلك ميزة تعبر عن التعددية والتنوع الثقافي). إن خطورة هذا التطور غير المتكافئ وغير المتساوي في التبعية والاستقلال، واسعة على المصير القومي العربي، والتحرر الوطني، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وقضية التنمية الاقتصادية والبشرية القطرية؛ التي لا يمكن تخطي عتباتها المانعة بدون الوحدة العربية،والتساند القومي، والسوق العربية المشتركة، والثقافة السياسية والاقتصادية؛ التي تكرس التعاون والمصالح المشتركة واستخدام الموارد المادية والفنية والبشرية في عملية تاريخية تساهم فيها كل أقطار الوطن العربي والطبقات الاجتماعية الوطنية والجماهير المملقة المهمشة. وقد رأينا ما حصل للعراق بعد تأميم نفطه عام 1972م، وخططه الطموحة لاستخدام موارده المالية الكبيرة من عائدات النفط في بناء قاعدة صناعية حديثة ومتطورة، وتأهيل أجيال من العلماء والفنيين في شتى مجالات العلم والتكنولوجيا بما فيها استخدام الطاقة النووية. رأينا كيف تم حصاره، وشن الحرب عليه تحت شعارات أمن الخليج العربي( أكبر مستودع للنفط في العالم والغنيمة الكبرى للرأسمال الأمريكي) وأمن القاعدة الصهيونية في فلسطين، حتى تم احتلاله سنة 2003م، وتدميره بمساعدة جيرانه من دول وإمارات ومشيخات الخليج العربي وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية (التي لم تخالف في يوم من الأيام سياسات الولايات المتحدة الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولقاء الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت والملك عبد العزيز بن سعود سنة 1943م، من أجل الحفاظ على الأسرة المالكة في سدة الحكم كمتعهد وشريك صغير في إدارة حقول النفط الغنية في الجزيرة العربية). وما كان أصاب تجربة محمد علي باشا في القرن التاسع عشر، وتجربة جمال عبد الناصر في مصر في القرن العشرين من تدمير في المرحلتين الاستعمارية والإمبريالية.‏

في عصر العولمة، وهيمنة الشركات متعددة الجنسيات على اقتصاد وأسواق العالم المالية، ومنابع الطاقة والمواد الأولية الزراعية والمعدنية، نجد في كل قطر عربي دولة تتحالف طبقتها السياسية مع طبقة من رجال الدين مقطوعة الجذور الاجتماعية، تقوم بتشجيع إنتاج وصناعة ثقافة ذات طابع مانوي لحماية مصالح وامتيازات خاصة. وبمساندة طبقة من رجال الأعمال الذين خلقتهم هذه الدويلات؛ ليكونوا وكلاءها لدى الشركات عابرة القومية، وممثليها، ومديري أعمالها. وتحت شعارات حماية الثقافة القومية والإسلامية الأصيلة والحفاظ على الموروث الديني، هدفها الرئيس تمجيد الطاعة والخضوع لولي الأمر، ودعم ثقافة الاستبداد والطغيان تحت ظل رايات الشورى والديموقراطية، فيما تسيطر قيم السوق على كل مناحي الحياة، فتغير الأخلاق والأذواق والسلوكيات بشكل جذري.‏

وفي المقابل تحركت قوى اجتماعية مهمشة دمرت التطورات الاقتصادية وسيطرة حفنة من البيروقراطيين ورجال الأعمال ـ الذين تحدثنا عنهم سابقاً ـ على أسس حياتها وأعمالها الحرفية والزراعية وثقافتها الموروثة للرد على هذه الأوضاع، وإعلان الجهاد والحرب عليها تحت شعارات أصولية دينية إسلامية باسم العدالة، والعودة إلى حكم الله؛ ضد ما يسمونه بالجاهلية الجديدة التي نظر لها المفكر الإسلامي الهندي أبو الأعلى المودودي، ثم تابعه سيد قطب المفكر الإسلامي الأصولي المصري الذي قام بوضع أصولها الشرعية والعقائدية. الجهاد ضد الظلم وطاغوت الغرب اليهودي ـ الأوروبي والأمريكي والصليبي والمجتمعات الجاهلية في الأقطار الإسلامية؛ التي اقتبست ثقافته وقوانينه وتعمل بموجبها. القتال من أجل تقويم الانحراف لتطبيق شرع الله كما يتأولون.

وقد نشأت انطلاقاً من هذه الثقافة الإسلامية الأصولية التكفيرية منظمات سياسية كوسموبوليتية عالمية مثل منظمة القاعدة؛ التي أسسها أسامة بن لادن بعد تحالفه مع الإمبريالية الأمريكية في الحرب على السوفييت في أفغانستان في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي لتحرير أفغانستان من الشيوعية حسب أيديولوجيته الأصولية، وقد اكتشف بعد ذلك أنه كان يحارب لصالح الأمريكان لإسقاط الشيوعية في روسيا والبلدان التي كانت تشكل دولة الاتحاد السوفييتي، فانقلب عليها متحالفاً مع منظمة طالبان؛ التي استولت على السلطة في أفغانستان، وأقامت فيها دولة وفق أيديولوجيته الأصولية التكفيرية بمساعدته وتمويله. هذه الثقافة أربكت ثقافة النهضة العربية والإصلاح الإسلامي وخلقت الصدوع في جسد الأمة التي عانت وتعاني من الانشقاقات التاريخية المذهبية والطائفية، وبلبلت الرأي العام العربي والإسلامي؛ لأن زمن هذه الانزياحات قد ولى، ولم يعد من الممكن عكس مجرى الزمن. ثقافة العولمة التي تسود وتهيمن لا يمكن الانتصار عليها بهذه العصيانات، وعمليات القتل العشوائي للناس بالتفجيرات الانتحارية دون تمييز بين المجرم والبريء، وهي تمتلك كل الشروط والوسائط للتمكن في الواقع المادي والروحي. والمنهج الوحيد المتاح هو البحث المعرفي والعلمي لاستيعاب واكتشاف قوانين هذه التطورات التكنولوجية والعلمية والاقتصادية، ومفاعيلها السياسية والاجتماعية. والتعامل معها انطلاقاً من استراتيجية الاحتواء والتمثل والتمكن والدخول بقوة في مكوناتها الرئيسة، واحتلال موقع مؤثر يمكن من التأثير في مجراها الصاخب ليكون جواز مرورنا لصنع هويتنا الحديثة. و إلا فسنظل عالقين بين التراثين المهيمنين على ثقافتنا من حيث الشكل؛ لأن المضمون يتغي، وهو ثقافة السوق العالمية؛ التي هي العلاقات الإنتاجية الرأسمالية المهيمنة في كل مرحلة من تاريخها.‏

ـ 11 ـ‏
ثقافة المقاومة هي ثقافة الإبداع والحوار والتواصل والمقابسة والمثاقفة. ثقافة الفكر اليقظ الباحث عن المعرفة، وتقويم إنجازاته بالنقد والنقد الذاتي للوصول إلى غاياته؛ التي هي غايات مجتمعه تقوم على أسس ومنطلقات مؤسسة، هي:‏
1ـ الاعتراف بحق الاختلاف، أي حرية التعبير عن الرأي، وحرية الاعتقاد، وحرية الفكر، والتعددية الحزبية.‏
2ـ مرجعيتها الديموقراطية كفلسفة سياسية وممارسة ومؤسسات ومنهج؛ لبناء الدولة التمثيلية وجوهرها فصل السلطات.‏
3ـ نبذ الشمولية، والتأكيد على تنوع وغنى الفكر، والشخصية الإنسانية، والذات الفردية، والهيئات الاجتماعية.‏
4ـ التركيز على تنمية شخصية الإنسان العربي الفاعل وتنمية قدراته العقلية والعملية من أجل الإبداع وتحمل المسؤولية وتقرير مصيره، وإعادة الاعتبار للعمل الإنساني كصانع للقيم الاستعمالية والتبادلية.‏
5ـ الانحياز إلى العقلانية النقدية في الفكر والعلم، وبناء الثقافة السياسية وفق مفاهيمها وأفكارها.‏
6ـ تكريس القومية العربية كأيديولوجيا سياسية من أجل الوحدة والتحرر وبناء الدولة العربية الواحدة، وجعل الموروث العربي الإسلامي في جوهر القومية العربية كمؤسس للثقافة الحديثة.‏
7ـ كشف النقاب عما بين العلم والتكنولوجيا والأخلاق من صلات تشكل الأساس المادي والروحي لثقافة المقاومة؛ التي ستعيد بناء الشخصية القومية للأمة وللإنسان، وتقضي على الفساد وما زرعته الرأسمالية الغازية من قيم وسلوكيات وتطلعات جوهرها تدمير الشخصية المبدعة والعاملة والمكافحة للأمة والأفراد في سياق الغز، والهيمنة، والتبعية.‏
8ـ ثقافة المقاومة هي ثقافة التحرر الوطني والقومي، وإحقاق الحق، وتعميم الخير والسعادة لبناء الذات، وإبداع الهوية، وتجديد الانتماء بالإرادة الحرة والممارسة الكفاحية. هي ثقافة الحياة في مقابل ثقافة الموت التي يفرضها العدو، ويشوهها التكفيري الذي فقد التواصل مع الحقيقة، أي: الإبداع من أجل انتصار الحق والحرية، والاستقلال، وتحرير الأرض، وطرد الغزاة المستعمرين من الأرض العربية المحتلة، وتدمير الاستبداد؛ الذي يعيق تطور الإنسان والثقافة والدولة والمجتمع، لجني ثمرات العقل، والتحرر، والحرية. ‏

الهوامش:
(1) عجائب الآثار في التراجم والأخبار-عبد الرحمن الجبرتي- ج2-ض16-أخبار 1213هج.‏
(2) انظر كتاب «الثقافة والتنمية المستقلة في عصر العولمة» للمؤلف وبخاصة الفصل الأول التخلف العربي ثقافي أم تكنولوجي الصادر عن اتحاد الكتاب العرب 2005.‏
(3) التاريخ الاجتماعي للوسائط. كتاب عالم المعرفة ـ الكويت رقم 315 ـ مايو 2005. تأليف آسا برغز ـ ميتر بورك ـ ترجمة مصطفى قاسم ص29ـ30.‏
(4) القول الفلسفي في الحداثة تأليف يوجن هابرماس ـ ترجمة د فاطمة الجيوسي وزارة الثقافة دمشق 1995. ص9.‏
(5) المرجع السابق ص15.‏
(6) المرجع السابق ص 34.‏
(7) تقديم عبد الرحمن الشهبندر لكتاب المؤتمر العربي الأول ص13-14- تحرير وتقديم محمد كامل الخطيب- وزارة الثقافة-دمشق 1995م. راجع كتاب- الحداثة العربية مواقف وأفكار للمؤلف-محمد سعيد طالب- الصادر عن دار الأهالي عام 2003.‏
( التجديد التراث د.حسن حنفي، راجع كتاب المؤلف (الحداثة العربية مواقف وأفكار) ص 258- مرجع سبق ذكره.‏
(9) يكتب أحد هؤلاء(يجب استلحاق التراث الإسلامي بمناهل الفكر الإبداعي كما التراث اللاتيني والعبري والياباني والصيني والهندي، وهذا قد يكون ضماناً لتشكيل المشهد المشترك مشهد الثقافة العالمية)د عبد الوهاب المؤذن (أوهام الإسلام السياسي) ترجمة محمد بنيس والمؤلف.‏
(10) نعوم شومسكي- الدولة الفاشلة- ترجمة سامي الكعكي- ص18- دار الكتاب العربي- لبنان.‏
(11) الصناعات الإبداعية- كتاب عالم المعرفة-الكويت- 359 الجزء الثاني أيار 2007- تحرير جون هارتلي ترجمة بدر السيد سليمان الرفاعي.‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://social.alafdal.net
 
منظومتنا الثقافية بين المقاومة والإبداع، والتبعية والاتباع
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» دراسات في حب الإستطلاع والإبداع والخيال
» سميرة موسي‏:‏ المرأة والإبداع العلمي
» لأول مرة على النت: مدرستا التنمية والتبعية أوجه التباين بين الطرح النظري والواقع التطبيقي
» موسوعة السياسة تحرير الدكتور عبد الوهاب الكيالى - 7 مجلدات
» المقاومة.. ومكافحة الإرهاب

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
إنســـانيــات .. نحـو عـلم اجـتماعى نـقدى :: 
منتدى الخدمات العامة لجميع الباحثين
 :: 
قضــــايا ومنــاقـشــــات فى كل المجالات
-
انتقل الى: